إغتيال محمود فهمي النقراشي باشا ... رئيس
الوزراء ووزير الداخلية


--------------------------------------------------------------------------------







تفضل
"قبل وفاته" ألأستاذ قنايات رحمه الله ، بتدوين قصة إغتيال محمود فهمي النقراشي
باشا ....في سياق موضوع الشيق

وجيلنا ، يتذكر ذلك اليوم من شياء 1948 ،
الذي بدأت بعده الحياة السياسية في مصر تنقلب رأسا علي عقب .... وكبف أننا كنا
نهرول من أجل شراء الصحف ... "وخاصة" النسخ التي كانت لم تخضع بعد لمراقبة الصحف
...

إغتيال "ضابط" بوليس ....لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية ... محمود
فهمي النفراشي باشا ...

كان النقراشي رئيسا للوزارة ووزيرا الداخلية في آن
واحد ....

إنقلبت الدنيا أيضا في شوارع بورسعيد ... وخرجت مجموعات من
"البوليس" .. والمباحث .. والمباحث السياسية لتنتشر في المدينة ... وتبدأ في تفتيش
العديد من المنازل .... وقبضت علي بعض الشباب ... ولاحظنا ، كبف أنهم حاصروا
البناية التي يوجد في الدور الأول منها ... "مركز الأخوان المسلمين ... زاولة صلاة
... فوق أحد أكثر محلات الكهرباءفي المدينة"

لم نكن نعرف الحقيقة بعد ، وأن
القاتل قد اتضح انه ضابط مزيف كان يتردد علي قهوة بالقرب من وزارة الداخلية *
.

فيما يلي قصة الأغتيال التي ستستكمل ، وقد يمكن الحصول علي حيثيات الحكم
بحيث يغطي الموضوع ...

:
إقرأ الحادثة
مصرع دولة
النقراشي باشا





المكان: مدينة
القاهرة


الزمان: شتاء سنة 1948

نحن الان نتجول في قلب مدينة
القاهرة ولكنها غير القاهرة التي نعرفها الان.. إنها القاهرة في يوم الثلاثاء 28
ديسمبر سنة 1948 حيث تقترب عقارب الساعة من الرابعة بعد العصر* السماء ملبدة
بالغيوم ورذاذ المطر يتساقط والشمس توشك علي المغيب والطرابيش الحمراء تغدو وتروح
وصفير 'الترماي' يختلط بكلمات الأفندية وصيحات الباعة الجائلين.. وفي محل شيكوريل
بشارع فؤاد الاول نفاجأ بأسعار زمان حيث يعرض البلوفر الصوف الرجالي بجنيهين
والقميص بستين قرشا والكرافة بعشرة قروش.. يابلاش!..

وتظهر في الشوارع
اعلانات لأحدث الأفلام مثل فيلم عبنر لأنور وجدي وليلي مراد بسينما شبرا بالاس
وفيلم 'خيال امرأة' لكاميليا وكمال الشناوي بسينما الكورسال اما شكوكو، فقد أعلن هو
وفرقته عن احتفال رأس السنة بأسعار مخفضة علي مسرح حديقة الأزبكية وانتهزت الفرصة
فرقة استعراضية تسمي 'اوتاسي' العالمية لتعلن عن سهرة رأس السنة مع 9 فتيات جميلات
في كازينو الكيت كات * ومكانه الآن مسجد خالد بن الوليد * وأخيرا علي كازينو بديعة
مصابني بالأوبرا نري الدبة كاتيا أعجوبة القرن العشرين وهي تعتلي خشبة
المسرح.

اقرأ الحادثة
فجأة نسمع صوت باعة الجرائد وهم يهرولون في الشوارع
وينادون 'اقرأ الحادثة.. اغتيال النقراشي باشا رئيس الوزراء'.. يتهافت العابرون علي
شراء جريدة الزمان المسائية (لصاحبها اوجار جلاد بك ورئيس تحريرها جلال الدين
الحمامصي) وثمنها 10 مليمات (قرش صاغ) حيث يتصدر صفحتها الأولي مانشيت كبير بالبنط
الاسود الثقيل 'مصرع دولة النقراشي باشا' وفي تفاصيل الخبر نقرأ التالي:

في
العاشرة الا الثلث من صباح اليوم دخل ضابط بوليس برتبة ملازم اول صالة وزارة
الداخلية في الطابق الاول فأدي له حراس الوزارة التحية العسكرية وأخذ يقطع الوقت
بالسير البطيء في صالة الوزارة كأنه ينتظر شيئا وعندما أحس بقرب وصولة دولة
النقراشي باشا اتجه نحو الاسانسير ووقف بجانبه الأيمن وفي تمام العاشرة وخمس دقائق
حضر النقراشي باشا ونزل من سيارته محاطا بخرسة الخاص واتجه للأسانسير فأدي له هذا
الضابط التحية العسكرية فرد عليه مبتسما وعندما أوشك النقراشي علي دخول الاسانسير
اطلق عليه هذا الضابط ثلاث رصاصات في ظهره فسقط قتيلا ونقل جثمانه إلي داره بمصر
الجديدة وأعلنت محطة الاذاعة الحداد لمدة يومين تقتصر فيهما البرامج علي القرأن
الكريم والأخبار والأحاديث بمعرفة المذيعين وحدهم مع اعفاء المذيعات كنوع من
الحداد.

من هو القاتل؟
أما القاتل فقد اتضح انه ضابط مزيف كان يتردد علي
قهوة بالقرب من وزارة الداخلية * كان النقراشي
رئيسا للوزارة ووزيرا الداخلية
في آن واحد.

وقال رواد المقهي انهم عرفوا الضابط المزيف باسم حسني افندي
وانه تلقي مكالمة تليفونية قبل الجريمة بعشرين دقيقة من شخص مجهول اخبره ان
النقراشي باشا في طريقه الي مكتبة بوزارة الداخلية.. أما الاسم الحقيقي للقاتل فهو
عبدالحميد احمد حسن وكان طالبا بكلية الطب البيطري وعندما سأله المحقق عن مصدر
البدلة العسكرية اجاب بتهكم: في 'سوق الكانتو منها كتير '.. وقد تجمل الجاني ضرب
الجماهير وهو في طريقه الي غرفة الامير الاي محمود عبدالمجيد بك مدير المباحث
الجنائية وقال في هدوء وثبات.. 'أيوه قتلته واعترف بكده لانه اصدر قرارا بحل جمعية
الاخوان المسلمين وهي جمعية دينية ومن يحلها يهدم الدين.. قتلته لاني أتزعم شعبة
الاخوان منذ كنت تلميذا في مدرسة فؤاد الاول الثانوية.

وبعد الحادث بأربعة
أيام وفي جريدة اخبار اليوم الصادرة صباح السبت اول يناير سنة 1949 نقرأ العنوان
الرئيسي بالبنط الاسود الكبير قاتل النقراشي له شركاء مع عنوان ثانوي باللون
الاحمر: ابراهيم عبدالهادي باشا سيجري الانتخابات القادمة بالاضافة إلي صورة الفقيد
بجوار صاحبة العصمة السيدة الجليلة أرملته وكان النقراشي يمانع في نشر هذه الصورة
عندما كان علي قيد الحياة.

سطور من حياة
النقراشي باشا
علي الصفحة
الثالثة من جريدة أخبار اليوم نقرأ مقالا كبيرا عن حياة النقراشي ونعلم منه انه ولد
بالاسكندرية عام 1888م وتخرج في مدرسة المعلمين العليا وعمل مدرسا بمدرسة رأس التين
الثانوية وتنقل في مناصب التعليم الي ان عين سكرتيرا عاما لوزارة المعارف ثم وكيلا
لمحافظة القاهرة واختير عضوا في الوفد المصري مع سعد باشا زغلول ثم اصبح وكيلا
لوزارة الداخلية وأحيل المعاش واعتقل عقب مقتل السردار الانجليزي سيرلي ستاك سنة
1924 ثم أفرج عنه وصار وزيرا للمواصلات سنة 1930 وتزوج سنة 1934 ورزقة الله بولديه:
هاني وصفية.. وقد صار هاني دكتورا مهندسا الان ويقيم بألمانيا وله نشاط كبير في
مشاريع هندسية خاصة بمصر اما صفية فقد تزوجت من د. شامل نجل ابراهيم باشا دسوقي
اباظة.

نعود النقراشي باشا الذي تألق نجمة وتولي رئاسة الوزارة مرتين:
الاولي في 24 فبراير سنة 1945 حتي 15 فبراير سنة 1946 والثانية في 9 ديسمبر سنة
1946 حتي اغتياله فتولي رئاستها بعده صديقه ابراهيم باشا عبدالهادي رئيس الديوان
الملكي انذاك وذلك بتكليف من الملك فاروق.

ومن المواقف الوطنية المشهودة
للنقراشي باشا انه أعلن علي الملأ في مجلس الامن يوم 5 اغسطس 1947 انه علي بريطانيا
الجلاء التام ودون أية شروط ومن أعمال وزارته: كهربة خزان اسوان وانشاء كلية الضابط
البحرية بالاسكندرية وانشاء البنك الصناعي وقناطر ادفينا وتأميم شركة النور
بالقاهرة وغير ذلك الكثير ويذكر المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي (1889 * 1966) ان
النقراشي باشا كان وطنيا شريفا نزيهما نظيف الذمة المالية ومن القلائل الذين لم
يتربحوا من وراء مناصبهم.

مصطفي أمين يتنبأ
باغتيال النقراشي
علي
الصفحة الثالثة ايضا من جريدة اخبار اليوم السابق ذكرها نجد مقالا بقلم الكاتب
الصحفي المرحوم مصطفي أمين (1914 * 1997) تحت عنوان النقراشي كان يعرف انه سيموت'
يقول فيه: إنه ذهب لزيارة النقراشي باشا في منزله قبل اغتياله بأسبوعين تقريبا ولفت
نظره اثناء جلوسه في الصالون انتظارا لنزول الباشا ان حوائط المنزل مزينة بصور
اصدقاء النقراشي الراحلين ومنهم الدكتور محجوب ثابت وشاعر النيل حافظ ابراهيم ورفيق
كفاحه أحمد باشا ماهر رئيس الوزراء الذي أغتيل يوم 24 فبراير سنة 1945 بالبهو
الفرعوني الفاصل بين مجلسي الشيوخ والنواب ورأي ايضا * والكلام لمصطفي امين * صورة
مصطفي النحاس باشا رغم اختلاف النقراشي معه في كثير من المواقف مما يدل علي وفاء
النقراشي باشا لاصحابه حتي ولو كان مختلفا معهم.. ودار الحوار بين مصطفي أمين
والنقراشي حول القرار الذي ينوي اصداره بحل الاخوان المسلمين فتمسك النقراشي برأيه
في ثبات عجيب 'عرف عنه منذ شبابه الباكر ايام اشتراكه في ثورة 1919 وقال بالنص:
'سوف اصدر القرار وانفذه وبعد الاطمئنان علي الحالة سأستقيل وأعود معلما كما بدأت
وأعلم ابني هاني وصفية بنفسي'!

ولما رآه مصطفي أمين مصرا علي تنفيذ رأيه
تنبأ باغتياله وقال له: 'قد تكسب رأيك ولكننا سنخسرك.. وعاد مصطفي أمين بيته باكيا
وكان يشعر وهو يصافحه انه الوداع الاخير.. وتحققت النبوءة واغتيل النقراشي.. فختم
مصطفي امين مقاله قائلا: تلقيت نبأ مقتل النقراشي فلم ابك ولم انتحب لأني بكيته
بالدمع السخين قبل أن يموت باسبوعين.

حزنت مصر وجزعت كثيرا لمقتل النقراشي
باشا وشيعه مجموع الشعب ليدفن بجوار صديقه ورفيق عمره أحمد ماهر باشا في المدفن
المقام بشارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا) بالقرب من مستشفي دار الشفا بالعباسية ومن
الغريب ان القاتل أعلن ندمه عقب اعترافه الجريمة مما علي ان النقراشي باشا كان
مثالا للوطنية الصادقة والشجاعة الادبية والصرامة في الحق حتي أحبه مؤيدوه ومعارضوه
علي السواء.
وقد توالت حفلات تأبين النقراشي باشا وتباري الشعراء والادباء في
رثائه ومنهم صديقه 'شاعر العدوية' علي بك الجارم (1881 * 1949) بقصيدته الغائية
الفخمة ومطلعها:

ماء العيون علي الشهيد ذراف ... لو أن فيضا من معينك
كافي
واذا بكي القلب الحزين فماله ... راق ولالبكائه من شافي
ورثاه ايضا
صديقه المفكر الكبير عباس محمود العقاد (1889 * 1964( بقصيدة أنيقة عنوانها 'الشهيد
الأمين مطلعها:
أسفي ان يكون جهد رثائي ... كلم عابر ورجع بكاء
يرحم الله مصر
انك يا محمود في رحمة مع الشهداء
رحم الله محمود فهمي النقراشي باشا تعلمت وأنا
اطالع سيرته كيف كان الرجال ايام زمان لايترددون في التضحية بحياتهم ثمنا لما
يؤمنون به من آراء فليتنا نقتدي بهم.







حفيدته تعيد كتابة
تاريخه لرسم صورة جديدة
ذكريات ... النقراشي العقل المنظم لثورة 1919







القاهرة - “الخليج”:
في التاريخ المصري، لم
يتعرض أحد الزعماء للنقد، بقدر ما تعرض له
محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء
المصري قبل ثورة يوليو/تموز 1952
فأغلب من كتب عنه يحمل رأيا لم يكن وديا على أي
الأحوال،


هكذا يرى المؤرخ الشهير د. يونان لبيب رزق طبيعة التعامل
النقدي مع شخصية
النقراشي الخلافية، فالكتاب الذين أرّخوا للحركة الوطنية
وجسدوها في حزب الوفد،
لم ينسوا للرجل أنه أحدث أكبر الانشقاقات في هذه الحركة
بعد خروجه مع د. أحمد
ماهر من حزب الوفـد، وتشكيلهما للهيئة السعدية عام
1938.


أيضا فإن اغلب من أرّخوا للقضية الفلسطينية أخذوا على النقراشي
انصياعه للملك
فاروق، وقبوله خوض حرب ،1940من دون استعداد كاف، بكل ما ترتب على

ذلك من سلسلة كوارث أحاطت بمصر،


كما أن الكتّاب الذين أرّخوا
للإخوان المسلمينلم ينسوا للرجل أنه أول من أقدم على حل
الهيئة وتحويلها إلى
“جماعة محظورة”،


ونسي هؤلاء أن واحدا من الإخوان المسلمين هو الذي قام
باغتيال الرجل. وعندما
تكتب حفيدة النقراشي تاريخه، فإنها لابد أن تكون منحازة
بصورة ما لذكرى الجد،
وهو التحيز الذي يراه د. يونان لبيب رزق، غير مـجـحـف
بجوانب الصورة المخـتلفة،


وهذه الحفيدة د. هدى شامل أباظة ترى أن علاقة
جدها لأمها بحزب الوفد أو انشقاقه
عنه، كانت حدا فاصلا في تاريخه، حيث جاء هذا
الحدث إيذانا بمرحلة جديدة لديه،
وفي الوقت نفسه فإن تاريخ النقراشي يعكس جزءًا
مهمًا من التطور الذي طرأ على
تاريخ الوفد ذاته. ورؤية النقراشي من زوايا
مختلفة تسفر عن وجهات نظر متباينة
لشخصيته،


ولعل الصمت الذي اشتهر
به، لعب أيضا دوره في الغموض الذي أحاط
بشخصه، حتى إن رسامي الكاريكاتير في عصره
كانوا يرسمونه على هيئة “أبو الهول”
، والغريب كما تنقل الحفيدة طبقا لشهادات
المقربين منه أنه رغم ولائه الشديد لأسرته
وشريكة حياته، لم يطلعها قط على ماضيه
أو حياته بالسجون، أو الدور الذي لعبه في
ثورة ،1919 وكانت هي لا تستطيع أن
تتصور أي صلة لهذا الزوج الذي يبدو وديعا
بالكفاح المسلح، وإن كانت ميزت فيه
طباعا حادة، سرعان ما كانت تزول،


فقد كان النقراشي بالنسبة للزوجة
الرجل الثاني في الحزب السعدي، بعد أن كان عضوا
بارزًا في الوفد، وهو رجل الدولة
الذي يعشق الانضباط والنظام.


وصورة النقراشي في الوثائق البريطانية، هي
أنه “المدرس” أو “ناظر المدرسة”
ضيق الأفق، وهو كذلك الرجل العنيد، وأيضا
الوطني المتطرف،
كان الإنجليز يبغضون النقراشي حتى أن الزوجة في مصر تروي
لحفيدتها مؤلفة الكتاب
الصادر عن “دار الشروق” عن نظرة التشفي التي لمستها في
عين مسؤول كبير بالسفارة
البريطانية عندما ذهب ليقدم تعازيه إليها في وفاة
النقراشي.


وظلت هذه الصفات الخاصة بالنقراشي راسخة لدى الإنجليز حتى عام
اغتياله
(1948)، فهو شخص متعنت وغير متعاون، بل إنهم كانوا يفكرون تارة في

التخلص منه عن طريق الضغط على الملك فاروق، ثم يتراجعون تارة أخرى
خوفا من
استبداله بشخص آخر أقل كفاءة، فالتخلص منه في نظرهم يحوله إلى
بطل قومي أمام
الرأي العام.


وكانت زوجة النقراشي معتادة على قراءة الصحف بالفرنسية قبل
زواجها منه،
وحين تزوجها كان قراره الحاسم “إنه من الآن فصاعدا تكون قراءة
الصحف
باللغة العربية”،


ومع ذلك اختلفت وجهات نظر المؤرخين المصريين
في الرجل
، د. عبد العظيم رمضان المؤرخ الراحل ذهب إلى اتهامه بالتواطؤ مع
العرش
بانشقاقه عن حزب الوفد، ويراه المفكر المستشار طارق البشري ضعيفا،
في
حين أن أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة والذي ترافع عن المتهمين باغتيال

النقراشي، يتهمه بالبطش والتعسف، وحكم البلاد بالحديد والنار،


وعند
إصداره قرار حل جمعية الإخوان المسلمين كان مفتقرا إلى الحكمة، فكان كمن
يحاول
إيقاف قطار مندفع.


أين النقراشي الذي بدأ حياته مدرسا وأنهاها رئيسا
لوزراء مصر من كل هذا؟


ولد الرجل عام 1888 ونشأ في أسرة تنتمي إلى
الطبقة الوسطى، وربطته علاقة
خاصة بأحد إخوته دونًا عن بقيتهم، ففي خطاب مرسل
منه إلى هذا الشقيق يطلب
منه إرسال مبلغ 50 جنيها إليه، وهو المبلغ الذي اكتتب
به كزملائه لتخليد ذكرى سعد
زغلول.


وتبدو مكانة هذا الشقيق قوية لدى
النقراشي عندما قبض عليه عام 1925 بعد اغتيال
السردار “لي ستاك” كما يدل على ذلك
خطاب الشقيق إلى مصطفى النحاس يدعوه
فيه إلى الاهتمام بقضية شقيقه، وباع هذا
الشقيق قطعة أرض كان يمتلكها من اجل
مواجهة النفقات التي استلزمها اعتقال
النقراشي وانقطاع موارد العيش لديه.


مفتاح شخصية النقراشي مجموعة من
العناصر، منها الالتزام والانضباط اللذان كانا
أساس دوره في ثورة ،1919 حيث عرف
بأنه العقل المنظم لثورة ،1919 كما دلت
مضابط مجلسي الشيوخ والنواب، وتزوج
النقراشي في سن السادسة والأربعين
(عام 1934) الزوجة كانت، وكما وصفتها “آخر
ساعة” “مثقفة ثقافة عالية
وتجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية إجادة تامة، لكنها
لا تتكلم مطلقا في السياسة،
وتعتقد أن رئاسة الوزارة أكبر مصيبة في
الدنيا”.



الجهاز السري


كان النقراشي ترتيبه الأول في
الشهادة الابتدائية، وبعد أن أتم دراسته بمدرسة رأس
التين الثانوية بالإسكندرية
عام 1906 انتقل إلى مدرسة المعلمين العليا بالقاهرة، ولاحظ
سعد زغلول تميزه وهو
يتفقد هذه المدرسة عام ،1907 فكان ممن وقع عليهم اختياره
للسفر في بعثة دراسية
لدراسة العلوم، وكانت رغبته أن يدرس التربية، رغم رفض
مدير البعثة في لندن،
ووزارة المعارف،


لم يعبأ بهذا الرفض، ومضى يدرس التربية.يقول النقراشي
في مذكراته التي نشرتها “أخبار
اليوم”: “إنني هنا مدين لسعد باشا، منذكنت تلميذا
إلى أن أصبحت رجلا، وكان لي في
جميع أدوار حياتي مربيا ومرشدا وقائدا وزعيما بل
كان لي والدا، تلقيت عنه دروس الجهاد
والتضحية والوطنية والشجاعة في الحق
واحتمال الشدائد والتمسك بحقوق البلاد”.


والتقى النقراشي زميله أحمد
ماهر في مدرسة التجارة التي قام كل منهما بالتدريس
فيها لفترة من الزمن، وتوثقت
صلة كل منهما بالآخر من خلال عملهما المشترك في
الجهاز السري لثورة ،1919



وعندما فصل النقراشي من الوفد آزره أحمد ماهر، وكان الدور الذي لعبه في
الجهاز
السري خلق منه سياسيا ملما بخبايا الأمور، قبل هذا كان انضم إلى جمعية
التضامن
الأخوي السرية عام 1910 وشارك في نشاطها بمساعدة أهالي طرابلس (ليبيا)
في
حربهم ضد الاستعمار.


وشهدت تلك الفترة سلسلة من الاغتيالات، اتهم
فيها النقراشي ضمن آخرين، وكان
آخرها حادث مقتل “السير لي ستاك” وكان أحد
الدلائل المادية التي استند إليها
النحاس في مرافعته عنه هو وجوده خارج القاهرة
خلال هذه الأحداث.


يقول النقراشي في رسالة وجهها إلى سعد زغلول: “احتطت
لكل هذا أثناء الثورة
ولهذا سجلت نفسي موجودا في عمل خارج القاهرة، طوال الحوادث
فكنت أحضر
من السويس لأباشر عملي في اليوم التالي، وتعودت طوال الثورة أن أنام
في سيارة
تاكسي أو في قطار السكة الحديد أو قطار البضاعة وهذا نفس ما كنت أفعله
عندما
نقلت إلى أسيوط في المدة من أول سبتمبر/أيلول 1919 إلى 30 يونيو/حزيران
1920”.


وإذا كان النقراشي انضم إلى حزب “الوفد” في 18 سبتمبر/أيلول 1927
وهو تاريخ
متأخر، فإن لذلك أسبابا، فقد كان سعد زغلول يريد له ولزميله أحمد
ماهر أن يعملا
بعيدا عن الأضواء، فلا يتعرضان هما وعبد الرحمن فهمي لعمليات
القبض أو النفي
التي تعرض لها أعضاء اللجنة المركزية للحزب، لأن الثلاثة كانوا
قادة الجهاز السري
لثورة ،1919 لكن سعدا بعد أن ألف أول وزارة شعبية، عين
النقراشي وكيلا لمحافظ
القاهرة في يونيو ،1924 ثم وكيلا لوزارة
الداخلية.


وعندما جلس النقراشي لأول مرة تحت قبة البرلمان نائبا عن
دائرة الجمرك بالإسكندرية
في أول سبتمبر ،1926 كان ذلك تحولا خطيرا، رآه الصحافي
الراحل مصطفى أمين
إنهاء للجهاز السري أو إجراء أفقده فعاليته، فبدخول من كان
نشاطهم تحت الأرض منبر
البرلمان “انقطع التيار الكهربائي الذي كان يربط القاعدة
بالقيادة”،


لكن صحيفة “التايمز” البريطانية أطلقت على النقراشي وأحمد
ماهر صفة “الجناح
الأيسر المتطرف”.


وبوفاة سعد زغلول جرى صراع على
من يخلفه في كرسيه، فانحاز ماهر والنقراشي
لمصطفيالنحاس رغم ما يعلمان فيه من
تسرع واندفاع، وخيل إليهما أنه رجل يسهل
قيادته، وأنه سوف يقدر لهما مساندتهما
له، لكن سرعان ما دخلت علاقة النقراشي
بالنحاس طورا جديدا، حيث كون زعيم الوفد
الجديد بطانة خاصة به ومنها أمين عثمان
الذي عرف بتقربهالشديد للإنجليز، وكذلك
مكرم عبيد.


في السلطة


تبنى النقراشي سياسة واعية رمت إلى
تحرير الاقتصاد المصري من التبعية الأجنبية،
وبخاصة البريطانية، وهي السياسة
التي انبثقت عن سياسة التمصير التي انتهجها، فنجد
السفير البريطاني يصف النقراشي
على النحو التالي في رسالته إلى مستر إيدن في 28
يونيو/حزيران 1938: “النقراشي
دون شك يخفي وراء أسلوبه الناعم الخلاب رغبة
متحرقة للتخلص من كل موظف إنجليزي
في خدمة الحكومة المصرية”.


وكان الانشقاق عن الوفد يمثل مرحلة جديدة في
مسيرة النقراشي، حيث تولى وزارات
الداخلية (مرتين) والمعارف والخارجية والمالية،
وذلك قبل أن يتولى رئاسة الوزارة
مرتين من 24 فبراير/شباط 1945 حتى 15
فبراير/شباط ،1946 ومن 9 ديسمبر/
كانون الأول 1946 حتى 28 ديسمبر/كانون الأول
،1948


لكن تاريخ النقراشي ارتبط بمذبحة كوبري عباس في 9 فبراير/شباط
،1946 حين تم فتح
الكوبري على الطلبة المتظاهرين، وإطلاق الرصاص عليهم. هذه
المذبحة اختلفت الآراء فيها،


فالمؤرخ عبد الرحمن الرافعي يقول: “بالغ
الرواة في تصوير هذه الحادثة، إذ جعلوا منها
في ما بعد دعاية سياسية ضد وزارة
النقراشي، وزعموا أن بعض الطلبة قتلوا فيها، وأن
بعضهم غرقوا في النيل من أعلى
الكوبري، وقد تحققنا أنه لم يقتل أحد في هذه الواقعة بالذات”.


وفي شهادة
أخرى لأحمد عادل كمال أحد أعضاء الجهاز السري للإخوان المسلمين نقرأ
التالي:
“أحد لم يقتل يومها رغم أن كثيرين ألقوا بأنفسهم من فوق الكوبري إلى النيل
أو
إلى الضفة الطينية من جهة الجيزة، ولكنها على أي حال كانت مذبحة أسفرت عن
مئات
الجرحى”، وهكذا فإن الآراء اختلفت حول هذه الحادثة رغم أن تاريخ النقراشي
ارتبط بها.


ومع استمرار النقاط الخلافية حول شخصية النقراشي تبرز القضية
الفلسطينية، حيث
اتخذ الملك فاروق قرار دخول حرب 1948 منفردا إذ وجدها فرصة
سانحة لتأكيد
زعامته للبلاد العربية، وكان دعا ملوك ورؤساء الدول العربية
لاجتماع في أنشاص
من دون علم الوزارة التي كان يترأسها وقتئذ إسماعيل صدقي ومن
دون مشاركة
وزير الخارجية المصري،


ودام الاجتماع يومين في 28 و29
مايو/أيار سنة ،1946 ليسفر عن قراءات مصيرية
منها ضرورة إنشاء كيان يبلور
القومية العربية.


وفور صدور قرار التقسيم، اقتصرت إجراءات الحكومة
المصرية على إنشاء قيادة
عسكرية في العريش، ألحقت بها كتيبة من المشاة معززة
بمدافع الهاون، للحيلولة دون
وصول الاضطرابات إلى حدود مصر وذلك بعد انتهاء
الانتداب البريطاني على فلسطين
في 15 مايو ،1948


وكانت خطة النقراشي
المعلنة هي أن يقتصر التدخل المصري في فلسطين على فتح باب
التطوع للحرب من دون
إشراك القوات النظامية،


وبالفعل شاركت قوة من المتطوعين المصريين في
الدفاع عن فلسطين في المرحلة الأولى من
المواجهة بين العرب والصهاينة، جنبا إلى
جنب مع قوات جيش التحرير بقيادة فوزي القاوقجي.


وظل النقراشي على رأيه
في تجنب دخول الحرب، إلا أنه بين عشية وضحاها تغير رأيه
فجأة ومن دون مقدمات،
وكان هذا التحول ثمرة ضغوط الرأي العام المصري
والمظاهرات التي اندلعت تنادي
بالاشتراك في الحرب، إضافة إلى نية الملك
فاروق المبيتة لخوض حرب نظامية في
فلسطين، وقد صدر منه أمر مباشر
للجيش للتحرك، قبل استشارة الوزارة،



وهناك أسباب أخرى يضيف إليها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل والمستشار
طارق
البشري في ما بعد سببا آخر وهو أن “الالتجاء إلى الحرب لصرف الأنظار عن
المشاكل
الداخلية، سياسة لجأت إليها الدول الدكتاتورية مرارا في التاريخ القديم
والحديث”.




حرب مع جبل الثلج



كانت حادثة كوبري
عباس، أول احتكاك مباشر بين جماعة الإخوان المسلمين وبين
حكومة النقراشي، إلا
أنه لم يصل إلى المواجهة الصريحة،


ثم كان أول خلاف بينهم وبين النقراشي
حين رفض أن يسمح لهم بالتدريب في
معسكرات خاصة بهم، وفتح لهم معسكرات الحكومة
التي أنشئت لهذا الغرض،
حين كان موقف الحكومة المصرية الامتناع عن إشراك الجيش
النظامي في المواجهة
المسلحة بين الفلسطينيين والصهاينة


، ثم توالت
بعد ذلك أسباب الاحتكاك والمواجهة بين حكومة النقراشي والإخوان
المسلمين، حتى
بلغت ذروتها في 8 ديسمبر/كانون الأول 1948 مع قرار حل
الجماعة لتكتمل المأساة
بمقتل النقراشي على يد عضو من أعضاء الجماعة.


ربما كان النقراشي يدرك
حجم الكيان الذي تصدى له، والذي يمكن أن نشبهه بجبل
الثلج الذي يطفو على السطح
ولا يبدو منه إلا الجزء اليسير، بينما يستتر الجزء
الأعظم في أعماق البحر،



كان حكم النقراشي بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين بمثابة “المحنة
الكبرى” على
حد التعبير الذي استخدمه بعضهم في مذكراته،


فقد بدأ
حكمه باعتقال حسن البنا مؤسس وزعيم الجماعة وأحمد السكري وعبد الحكيم
عابدين
المسؤولين فيها، بناء على الشك في ضلوع الجماعة في مقتل أحمد ماهر،
حيث كان
القاتل الذي ينتمي إلى الحزب الوطني موالياً لها.


وبعد هذا الاعتقال
الذي لم يدم طويلا توجه حسن البنا لزيارة النقراشي رئيس
الوزراء ليقدم له
تعازيه في وفاة أحمد ماهر ويشرح له طبيعة دعوته،


لكن النقراشي سارع
بإصدار أوامر لإخضاع نشاط الجماعة للمراقبة الدقيقة، وهي
السياسة التياتبعها
طوال فترة حكمه، ومع ذلك أيده الإخوان في تدويل القضية المصرية.


وكانت
البلاد دخلت في موجة عنف منذ مقتل أحمد ماهر في فبراير/شباط ،1945
وتصاعدت هذه
الموجة مع اغتيال القاضي أحمد الخازندار، وسعى البنا من خلال
علاقاته إلى تخفيف
حدة التوتر في العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والحكومة،
والتي وصلت إلى
الذروة باغتيال سليم زكي حكمدار القاهرة،


وفي 8 ديسمبر/كانون الأول
1948 أصدر النقراشي بصفته حاكما عسكريا الأمر
بحل جماعة الإخوان المسلمين، وغلق
الأمكنة المخصصة لنشاطها، وضبط أوراقها
وسجلاتها ومصادرة أموالها، وتم تعيين
مندوب خاص من وزارة الداخلية لإدارة
ممتلكات الجماعة لمصلحة وزارة الشؤون
الاجتماعية.





ثـلاثـة رصـاصـات قـبـل
الـمـصـعـد



كان النقراشي يأمل في أن يعتزل السياسة ليتفرغ لتربية
ابنه وابنته اللذين رزق بهما
بعد أن تقدمت به السن، لكنه في صباح الثلاثاء 28
ديسمبر 1948 وصل إلى وزارة
الداخلية، وصعد درجات المدخل، يحيط به الحرس وقبيل
وصوله إلى المصعد،


انطلقت ثلاث رصاصات من الخلف، استقرت في ظهره، فسقط
مضرجا بدمائه،
وكان القاتل، الذي كان متخفيا في زي ضابط، يدعى عبد المجيد أحمد
حسن، وهو
طالب في كلية الطب البيطري، وكلفه الجهاز الخاص في “الإخوان المسلمين”
بالقيام
بهذه المهمة ردا على قرار حل الجماعة.


وكما يقول عبد الرحمن
الرافعي فإن هذا الطالب كان مطلوبا في حملة اعتقالات طالت
بعض أعضاء الجماعة،
لكن النقراشي رفض اعتقاله قائلا: “لا أحب التوسع في اعتقال
الطلاب، إنني والد
ولي بنون، وأقدر أثر هذه الاعتقالات في نفوس الآباء والأمهات”،
وكان والد الطالب
موظفا بوزارة الداخلية، وحين توفي، قررالنقراشي تعليم ابنه ..الـقـاتـل
..
بالمجان.