.
اندلعت فى تونس منذ أيام مظاهرات احتجاجية انطلقت شرارتها الأولى من ولاية سيدى
بوزيد، ثم ما لبثت أن امتدت بسرعة إلى ولايات ومدن أخرى عديدة، وبدأت تأخذ طابعا
وطنيا، أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات، وينذر بالتحول إلى ما يشبه التمرد العام أو
الثورة الشعبية.
فقد ظلت هذه الاحتجاجات مشتعلة وتواصلت على مدى ما يقرب من أسبوعين، دون أن تلوح
فى الأفق أى إمكانية لاحتوائها أو إخمادها كليا، بل قد تتجدد فى أى لحظة إذا تمكن
النظام من السيطرة عليها خلال الأيام القليلة المقبلة. ويبدو أن أحدا لم يتوقع أن
تندلع مظاهرات بهذا الحجم فى تونس وبهذه القدرة على الاستمرارية، وذلك لسببين:
السبب الأول: يتعلق بأداء الاقتصاد التونسى، الذى لم يكن سيئا على الإطلاق، خاصة
إذا قورن بغيره من اقتصاديات الدول العربية المجاورة، فقد حقق الاقتصاد التونسى
معدلات تنمية مرتفعة نسبيا وبشكل متواصل خلال الحقبة المنصرمة، لكن الأهم أنه يتمتع
بحيوية خاصة، جعلته يحتل المرتبة السابعة فى مجال الإنجازات الإنمائية طويلة الأمد،
من بين ١٣٥ دولة، والمرتبة ٨١ فى مجال التنمية البشرية، من بين ١٨٩ دولة.
ومن يطالع تقارير المؤسسات الدولية، خاصة الأوروبية واليورومتوسطية، يتولد لديه
الانطباع بأن تونس أصبحت على وشك تحقيق انطلاقة اقتصادية كبرى، لدرجة أن البعض بدأ
يتحدث بصراحة عن «معجزة تونسية» ترشح هذا البلد الصغير للتحول بسرعة إلى أحد النمور
الاقتصادية المهمة!. وقد لاحظت بنفسى، من خلال عدد من المؤتمرات التى شاركت فيها
مؤخرا، أن الأوروبيين كانوا يضربون بتونس المثل للتدليل على ما تنطوى عليه اتفاقات
الشراكة الأوروبية مع دول المتوسط من فرص إيجابية تمكنت من استغلالها وتوظيفها
بنجاح.
السبب الثانى: يتعلق بالقبضة الحديدية للنظام. ومن المعروف أن للنظام السياسى
التونسى طابعاً بوليسياً وأمنياً خاصاً جداً، وتمكن من قمع المعارضة وتهميشها فى
الداخل إلى حد كبير، مما جعل قدرة المعارضة على تحدى النظام أو إثارة القلاقل له
محدودة إلى حد كبير. ولأن معظم رموز المعارضة التونسية يعيش الآن فى الخارج، فتبدو
قدرتها على التأثير فى الداخل محدودة.
لم يتوقع أحد أن تندلع مظاهرات احتجاجية لأسباب اجتماعية ومعيشية فى ظل اقتصاد
يبدو على السطح ناميا وقويا ومزدهرا، وتوقع كثيرون أن تتكفل القبضة الحديدية للنظام
بقمع واحتواء أى مظاهر احتجاج تلوح فى الأفق، ومعالجتها بسرعة وحسم فى حال اندلاعها
قبل أن تشكل تهديدا للنظام. غير أن ما لم يكن متوقعا حدث، ولأسباب لم تكن خافية،
خاصة على المتابعين والمدققين.
فمن المعلوم للكافة أن معدلات التنمية المتسارعة فى تونس ارتبطت بمظاهر فساد
كبيرة، مست رأس النظام الحاكم وعائلته والدوائر الضيقة المحيطة به، وبخلل واضح فى
توزيع عوائد التنمية على الصعيدين الاجتماعى والجغرافى، أى على الطبقات الاجتماعية
المختلفة، من ناحية، وعلى المناطق والأقاليم الجغرافية المختلفة، من ناحية أخرى.
معنى ذلك أن النمو الاقتصادى فى تونس أفاد شرائح محدودة جدا فى المجتمع، وحصرها
تقريبا فى الطبقة الحاكمة والدوائر المرتبطة بها مباشرة،
وركز على مناطق معينة تكدست فيها الاستثمارات، خاصة المناطق الساحلية، على حساب
مناطق أخرى فى الداخل وفى المناطق النائية. عَكَس هذا الخلل مؤشرات عديدة، كان من
أهمها معدلات البطالة المتزايدة، خاصة فى الأقاليم بين خريجى الجامعات، فقد لوحظ أن
عدد العاطلين من حملة المؤهلات فى تونس ارتفع من ١١٣ ألفاً عام ٢٠٠٨ إلى ١٣١ ألفاً
عام ٢٠٠٩، أى زاد بنسبة ١٨% خلال عام واحد، وهو مؤشر خطير، فإذا أضفنا إلى ذلك أن
الطابع القمعى والبوليسى للنظام لعب دورا مهما فى تعميق الشعور بالحنق والاغتراب،
لأصبح من السهل علينا فهم ما يجرى فى تونس الآن.. فهل بوسع النظام المصرى استيعاب
الدرس التونسى؟!
الدرس التونسى يقول إن الفساد والخلل فى توزيع عوائد التنمية يمكن أن يفجرا
براكين الغضب المكتوم فى نفوس الطبقات المحرومة، وأن قمع المعارضة السياسية المنظمة
وتهميشها لا يكفى لحماية النظام، فبوسع الشعوب أن تتحرك من تلقاء نفسها بعفوية
تامة، دونما حاجة إلى معارضة منظمة قد تتحول أحيانا إلى عبء قد يعرقل الثورات
الشعبية ويقيدها بأكثر مما قد يلهمها أو يحرض عليها.