شريط من الذكريات يمر بمخيلته .. يستجلب أجمل اللحظات.. يسمع ضحكتها التى مر عليها ثلاثين عاماً .. وهمساتها بالحب التى عطرت سنوات عمره التى قضاها مع زوجة بلا روح .. زوجة فظة الملامح .. سليطة اللسان ، لا تفوت لحظة إلا واستثمرتها لصالح رفيق عمرها "النكد"
استيقظ صوت حبيبة الماضي من غفوة الحرمان والبعاد وكأنه فلت من طاحونة الزمان ليتسرب إلي مسامعه .. (أهلا يا أحمد.. وحشتنى).. رقص قلبه .. رنات هذا الصوت لم تفارق أذنيه .. مازالت تتدفق في كيانه.. ارتبك " أحمد " وكأن الزمن لم يمر .. أخبرته بأنها الآن وحيدة بعد وفاة زوجها ، وزواج أبنائها.. أعربت عن رغبتها في رؤيته .. وبين لحظة وأخري وجد روحه التى سحرها حلم الماضي تسبقه وتمنيه بعودة الأيام الجميلة .. استقل سيارته .. وظلت الذكري تحوم حوله كيمامات أطلقتها أيادي الحب ليستعيد الشباب.. طيفها يتراقص أمامه .. يخفف من سرعته خوفا من أن يدهمها .. ثم يزيد السرعة حينما ينتبه إلي انه ذاهب إليها .. ومن بين هذا وذاك يفتر ثغره عن ابتسامة.. تَعَجُباً من نفسه المرتبكة..
ها هو يصل إلي بابها .. يتردد في دق الجرس .. حتى لا تراه علي هذه الحالة .. يتماسك قليلا .. ويضع إصبعه علي زر الجرس .. تفتح له سيدة لا يعرفها .. يندهش حينما تقول له: حمدا لله علي السلامة يا احمد .. يغمض عينيه .. يفتحها .. لا يصدق ان صوت حبيبته هو نفس صوت هذه المرأة العجوز التى تفتر ابتسامتها عن مغارة سوداء .. وأسنان تفرقت حتى تاهت عن بعضها في مسافات بعيدة .. ووجه بملامح قديمة به تعاريج غير متناسقة .. وقوام متهدل تكلله انحناءة بسيطة..
تراجع احمد إلي الخلف قليلا مستنكراً ما فعلته يد الزمان بحبيبته ..
تمتم باسمها : " عواطف" !! .. فردت عليه .. نعم " عواطف" .. عواطف التى انتظرتك كثيراً..
دخل في تخاذل .. فإذا بها قد أعدت له وليمة من الأصناف التى يحبها ..
هو يتذكر روائح طعامها الشهي .. ولكن أين هي؟؟
نظر مرة أخري إلي وجهها فلم يرها !!
ابتسمت ...
زاد فقدانه لوجودها وتسربت بقايا الماضي من صورتها التى طالما احتفظ بها في ذاكرته ..
تحدثت .. سمع صوتا يأتى من صحراء الذكري كسراب كاد يتبدد بالنظر لتلك السيدة التى تتحدث ولا يعرف كيف يسألها عن " عواطف" !!!
ظل صامتا حتى استجمع بعض الحروف ليقول لها : سأذهب لأبحث عن شئ فقدته الآن!!
خرج دون وداع ولا وعد باللقاء!!
ابتسم ابتسامة ساخرة وهو عائد يحمل خيبة الأمل في صدره ..
عاد إلي زوجته ليفيق علي صياحها الذي اعتاده .. ضمها إلي صدره .. وهي مازالت تصرخ .. ضمها بقوه حتى سكتت .. ثم تركها ليدندن للحياة .. وينظر في المرآة .. لتنطلق ضحكة هستيرية من حنجرته تأتى علي أثرها زوجته مذهولة .. تخبط بكفها علي صدرها متعجبة .. معتقدة أن زوجها أصابه الجنون .. وظلت تراقبه وهو يخلع ملابسه ويلقي بجسده علي أريكته ليمسح أثر الذكرى ويبتسم لواقعه الذي سيظل هكذا .. ولن يتغير.