أبناء الخطيئة!..
بقلم/ خالد محمد علي
هناك ظاهرة عجيبة يلحظها المتأمل في تاريخ الأديان والثورات، هي ظاهرة الانحراف عن مسار هذه الديانات والثورات بحيث يصل هذا الانحراف أحياناً إلى النقيض. فالأديان والثورات النبيلة تبدأ في صورة قيم سامية ينادي بها رجال عظماء هم الصفوة الفكرية والخلقية في عصورهم. وبعد برهة من الجهاد والكفاح يتحقق مجتمع الفكرة السامية بصورة من الصور، وفي نهاية هذه اللحظة يغادر الآباء المؤسسون مجتمعاتهم إما بالموت وإما بالقتل وإما بالسجن، لتبدأ لحظة ثالثة وأخيرة هي بداية خط الانحراف عن المبادئ والقيم التي جاهد الأنبياء والثوار من أجل تحقيقها.
وتظل زاوية الانحراف في اتساع حتى تصبح نقيضاً للدين والثورة. ومن هذا المنظور يكاد يكون تاريخ الأديان والثورات هو تاريخ الانحراف عن المبادئ!.. وإذا شئنا الدقة فإن تاريخ “التدين” هو تاريخ الانحراف عن عقيدة التوحيد ومبادئ الدين، وأن تاريخ الثورات هو تاريخ الانحراف عن مبادئ العدل والمساواة والحرية والتنمية!..
حدث هذا مع رسالة إبراهيم الحنيفية التي انتهت إلى صورة الديانة البرهمية في الهند، أو إلى صورة الديانة الصابئية في العراق، وشتان بين حنيفية إبراهيم وأساطير البرهمية والصابئة. وحدث ذلك مرة ثانية مع رسالة موسى التوحيدية على يد كهنة اليهود وأحبارهم الذين أضاعوا توراة موسى المكتوبة في الألواح، وظلوا يروونها شفاهاً لمئات السنين حتى اختلط حابل الوحي بنابل الثقافة والأساطير والتاريخ. ثم احتكروا الإله الواحد بعد أن صوروه في صور لا تليق بإله من الدرجة الثالثة!. وأخيراً ختموا هذا الانحراف باختراع المصدر الثاني للتشريع في اليهودية وهو “ التلمود”. والتلمود عبارة عن مدونة فقهية تسجل تراث المؤسسة الدينية اليهودية التي لم يعرفها موسى ولا هارون، تماماً مثل صحيح البخاري ومسلم والكليني عند المسلمين. وهو نظرياً يعد الكتاب الثاني بعد توراة موسى من حيث القيمة والقداسة، ولكنه عملياً يعد الكتاب الأول والأهم!.
وحدث هذا مرة ثالثة مع رسالة عيسى على يد بولس اليهودي وقسطنطين الوثني والكنيسة الرومانية المثلثة. فما أن ذهب المسيح إلى ربه حتى ضاع إنجيله الشفوي بين روايات مختلفة تناقلتها الفرق المسيحية المختلفة حول طبيعة المسيح. وظهرت دعوات بتأليهه مرة، وبتأليه أمه مرة ثانية، وبتأليه الروح القدس معهما مرة ثالثة. ولم ينته القرن الرابع الميلادي حتى كانت عقيدة التثليث والصلب هي العقيدة السائدة في الدولة الرومانية على الأقل، بعد أن كانت عقيدة التوحيد العيسوي هي الأكثر انتشاراً والأكثر اتباعاً.
حدث ذلك على يد الحاكم الروماني الوثني قسطنطين حين جمع المذاهب المسيحية المختلفة في مجمع “نيقية”، وكان أكثرها على التوحيد، آمراً المجتمعين من رجال الدين أن ينتخبوا مذهباً محدداً للدولة يضمن الاستقرار الاجتماعي فيها، ولكنه في نهاية الأمر تدخل بنفسه لاختيار هذا المذهب، وكان من الطبيعي أن يختار ما يتناسب مع مزاجه الوثني وهو عقيدة التثليث التي اعتنقها لاحقاً!. ومنها تم اعتماد الروايات الإنجيلية التي تتوافق مع عقيدة التثليث فقط، وهي الأناجيل المعروفة في العالم المسيحي اليوم. كما أمر بحرق كل الروايات والكتب الأخرى المخالفة، ومعاقبة وتعذيب كل من تثبت مخالفته للمعتمد!. وانتهى الأمر بتحويل المسيحية إلى مؤسسة دينية تدعى الكنيسة، لها تاريخ أسود من المظالم والانحرافات، عبّر عنه أحد الأدباء الغربيين الساخرين بما معناه إن المسيح لو عاد إلى الأرض مرة ثانية لاعتقلته الكنيسة وصلبته بتهمة الهرطقة والخروج على الدين المسيحي!..
وأخيراً حدث ذلك مع رسالة محمد عليه الصلاة والسلام. فما أن غادر النبي إلى ربه حتى ظهرت بوادر الطمع السياسي، كأول مطالع الانحراف عن قيم النبوة، حيث اجتمع ثلة من المنافقين الأخفياء غير الأتقياء في سقيفة بني ساعدة للمطالبة بحقهم في الأمر والسلطان، لولا أن تداركها كبار الصحابة وعقلائهم في الوقت المناسب. لكن النوازع الكامنة في النفوس ما فتئت تطل بين آونة وأخرى حتى استوت على شكل دولة أموية، جعلت الأمر وراثة ملكية لسلالة قرشية، في مخالفة صريحة لمبادئ الشورى والعدالة والمساواة في الرسالة المحمدية. واستمر الانحراف على صور شتى كان أخطرها ذلك الذي خرج من جلباب المؤسسة الدينية المنقسمة على نفسها بين شيعة لمعاوية وشيعة لعلي وشيعة للصمت، وشيعة للجنون. وبقي القرآن وحده بلا شيعة. بحيث انتهى الأمر _ كما حدث في اليهودية والمسيحية من قبل _ باختراع ما يسمى بالمصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، وهو الحديث المنسوب _ حقاً أو باطلاً _ للنبي عليه الصلاة والسلام، مضافاً إليه أحاديث الأئمة المعصومين عند الشيعة!.
ولم ينته القرن الرابع الهجري حتى كانت عقيدة التوحيد قد انتقصت من أطرافها بمقولات شتى. من مقولة حجية الحديث النبوي، التي قاومها النبي وصحابته الكبار حتى آخر نفس في حياتهم، إلى مقولة عدالة جميع أفراد المجتمع النبوي، دون تمييز بين سابق ولاحق، وبين مؤمن تقي ومنافق خفي، في مخالفة صريحة لآيات سورة التوبة التي قررت بشكل حاسم مراتب وطبقات المجتمع النبوي، بحسب رصيد أصحابها من الإيمان والعمل الصالح. إلى مقولات الإمامة الإلهية والأئمة المعصومين والإمام الغائب الذي لم يلد ولم يولد!. إلى عشرات غيرها من المعتقدات التي قامت بدورها على أكمل وجه في انتقاص عقيدة التوحيد: توحيد الله، وتوحيد كتابه، وتوحيد نبيه. كل ذلك في ظل غيبة كبرى للعقل الإسلامي في سراديب الجهالة والتقليد. وصدق الله القائل “ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون “ (يوسف:106). ولست في حاجة إلى تذكيرك بصور قانون الانحراف هذا في مجال الثورات السياسية، فإن أبسط تاريخ لأبسط ثورة يخبرك بذلك وزيادة!.
والمتأمل المدقق في تاريخ هذه الانحرافات يلحظ وجود خطوة محددة تسبق كل انحراف منها، وكـأنها قانون متبع لدى الجميع، هي خطوة تغييب الإنسان عقلاً وحرية وكرامة. ففي اليهودية استبد الكهنة اليهود بالأمر، واحتكروا الدين برمته، وقاوموا بنفوذهم القوي كل دعوة للتصحيح والمراجعة، حتى بلغ بهم الأمر قتل بعض الأنبياء كيحيى وزكريا، وتسليم آخرين لحافة الموت كعيسى، بتهم الانحراف عن الدين!.
ولك أن تتصور مدى غيبة المجتمع وضعف أفراده في مقاومة هذا الاستبداد ومصادرة الحرية والعقل، إذا كان الأنبياء أنفسهم يلاقون حتفهم على أيدي عشيرتهم وإخوانهم. وتكرر هذا المشهد في المسيحية، فكانت “محاكم التفتيش” هي أبلغ صور الاستبداد الديني في التاريخ كله. ولا حاجة بنا إلى تذكيرك بالمشهد نفسه في تاريخ المسلمين، من مصادرة للحريات وقهر لأصحاب الآراء المخالفة والمنادين بالتصحيح والمراجعة، وذبح بعضهم في عيد الأضحى كما تذبح الخراف، والزج ببعضهم في غيابة السجون أو في غياهب الجنون، فضلاً عن حرق كتبهم أو إهمال المؤرخين لجهادهم وتاريخهم ومقولاتهم، فكل ذلك وغيره من المعالم البارزة في تاريخنا المجيد!..
هكذا اتفق المستبدون المنحرفون في كل المجالات الدينية والسياسية على مذهب واحد هو مذهب مصادرة الحريات والحقوق الطبيعية للإنسان. يفعلون ذلك بمبررات ظاهرها الحق وباطنها الباطل، هذا بزعم الحفاظ على الدين من المارقين والفاسقين، وذاك بدعوى الحفاظ على الوطن من الخارجين والعملاء!. وخطيئة الانحراف عن دين الله قد تبدأ بحسن نية وجهالة عقل، لكن أبناء الخطيئة لا يلبثون أن يجعلوا من الانحراف استقامة، ومن الاستثناء قاعدة، ومن الباطل حقاً، ومن الإنسان نعجة لا عقل لها ولا حرية!. ولو أن نبياً من الأنبياء بعث إلى قومه اليوم لما عرفهم، لبعد المسافة بين ما عرف من الدين وما يمارسونه من التدين!.
إنني أتساءل بصدق: ماذا لو بعث محمد بن عبد الله اليوم ودخل مسجداً من المساجد الإسلامية فلم يجد المرأة تصلي مع الرجال كما تركها؟!. ماذا لو استمع إلى خطبة جمعة لداعية كبير يقسم وعظه ثلاثة أثلاث _ على مذهب رجال المرور في اليمن _ ثلث للقرآن وثلثين للحديث المنسوب إلى النبي؟!. ماذا لو علم أن كلامه قد أصبح ديناً يزاحم كلام الله، برغم نهيه عن ذلك نهياً جازماً؟!. ماذا لو علم أن دين الله قد صار يصنف بين وحي صحيح، ووحي حسن، ووحي ضعيف؟!. ماذا لو رأى المجتمع الإسلامي وقد توزع على شيع وطبقات وطرائق قددا؟!.. أظنه سيفضل العودة من حيث أتى على رؤية هذا الانحراف المنكر، وقبل أن يطالب رجال “الهيئة” بالاحتساب عليه بتهمة إنكار السنة المحمدية!.
وأخيراً يلاحظ المتأمل المدقق في طبيعة الانحرافات الدينية أنها جميعاً _ وإن اختلفت في الدعوى _ تقوم على طريقة واحدة وآليات مشتركة في الإثبات والنفي. فهم جميعاً لا يتبعون النص الواضح القاطع في الدلالة والثبوت، بل يتبعون آليتين محببتين إلى قلوبهم، أولاهما: آلية اختراع النصوص. وما أسهل أن تخترع نصاً وتنسبه إلى نبي أو ولي. وآخراهما: آلية التأويل المتعسف واتباع الدلالات الظنية. وما أسهل أن تأتي إلى النص العام فتجعله خاصاً، وإلى النص المجمل فتجعله مفصلاً، وإلى النص المطلق فتجعله مقيداً، وإلى النص الواضح فتجعله مبهماً!. وتاريخ التأويل الديني هو تاريخ جلد النصوص لتنطق بعكس ما تعتقد!. ثم يدعوهم ذكاؤهم بعد ذلك إلى تكوين بناء معرفي وفلسفي منظم يتلافى ثغرات المذهب المخترع، ويبرر نقاط ضعفه وعجزه، ويعيد صياغة الحقيقة الدينية بما يتناسب مع التوجه الجديد!.
على هذه الطريقة وتلك الآليات قامت عقيدة الصلب والتثليث في المسيحية، وعقيدة الإمامة الإلهية والإمام المنتظر في المذهب الشيعي، وعقيدة الباب والبهاء في البهائية، وعقيدة حجية السنة في المذهب السني. وعلى هذه الطريقة ستقوم كل الدعوات المنحرفة في المستقبل.. كلهم أبناء الظنون والاحتمالات والأوهام.. كلهم أبناء قبيلة “حدثنا عن أبيه عن جده”.. كلهم أبناء الخطيئة!.
تحياتي للجميع ورمضان كريم