الناس قدَّست «عبدالناصر» بسبب أعماله وبعدم وعيهم اى جهلهم
٢٨/ ٩/ ٢٠١٠
«تأليه الحاكم»، «كراهية الملكية الخاصة»، «إطلاق الشعارات الجوفاء»، «التسبب فى تضخم الجهاز الإدارى للدولة»، «الهيمنة على المسار الرئاسى المصرى».. كلها اتهامات لاتزال معلقة برقبة نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، رغم انتهاء النظام نفسه منذ ٤٠ عاما بالتمام والكمال، تلك النهاية التى جاءت مع وفاته وانتهاء مشروعه القومى.
فى الحوار التالى يتولى الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب جامعة حلوان، الرد على تلك الاتهامات وغيرها.
■ هناك اعتقاد لدى البعض بأن الرئيس عبدالناصر لا يزال يهيمن على كل شىء فى مصر رغم غيابه، نريد أن نتعرف على موقع عبدالناصر فى الفكر السياسى حالياً؟
- فترة جمال عبدالناصر فى الفكر السياسى تسمى «الجمهورية الثانية»، لأن مصر مرت منذ عام ١٩٥٢ بثلاث جمهوريات، الأولى كانت جمهورية محمد نجيب، وكانت جمهورية انتقالية ولم يحدث فيها شىء، أُعلنت فى يونيو ١٩٥٣ يعنى بعد قرابة العام على الثورة، وظلت مستمرة حتى تم إقصاء نجيب أو إبعاده فى ١٤ نوفمبر ١٩٥٤، لتبدأ بعد ذلك الجمهورية الثانية التى أسسها جمال عبدالناصر بدءًا من عام ١٩٥٦ مع الدستور والاستفتاء على شخصه، وتنتهى بوفاته عام ١٩٧٠، لتبدأ الجمهورية الثالثة مع بداية فترة حكم الرئيس السادات، ويصطلح على تسميتها بهذا الاسم لأنها مثلت نظاماً جديداً خرج عن كل ما قام به عبدالناصر، وكلنا نذكر طبعاً النكتة الشهيرة التى تقول: «إن السادات يسير على خطى عبدالناصر بالأستيكة، ليمحو كل ما قام به»، ومحادثات السادات مع هنرى كيسنجر فى نوفمبر ١٩٧٣ خير دليل على ذلك، فقد ذكر كيسنجر فى مذكراته أن السادات قال له: «أنا مهمتى التخلص من موروث عبدالناصر فى المنطقة»، الجمهورية الثالثة مستمرة منذ وفاة عبدالناصر حتى الآن لأن الرئيس مبارك يسير على خطى السادات.
■ ينسب لعبدالناصر أنه أرسى دعائم نظام الاستفتاء فى مصر حتى الآن، ما ردك؟
- مبدئياً الاستفتاء لا يجوز على الأشخاص، وإنما يكون على المبادئ، وصحيح أنه عمل غير دستورى، لكنه عمل ثورى تم فى عام ١٩٥٦، عندما كان النظام خارجاً لتوه من مشاكل صراع على السلطة، وقتها لم يكن لعبدالناصر أن يعرض نفسه فى مزايدة انتخابية يكون أمامه فيها أكثر من مرشح، ولم تتكون قاعدة شعبية له أو للثورة، فلم يكن قانون الإصلاح الزراعى قد طبق بعد، ومن هنا جاءت الاستفتاءات كنظام استثنائى فى فترة استثنائية لا يصح أن يستمر مع قدوم الرئيس السادات ووضعه دستوراً جديداً، ولكن ظل هناك نائب يعينه رئيس الجمهورية، ثم يطرح اسمه للاستفتاء بعد أن يوافق عليه مجلس الشعب.
■ ألا يحمل نظام الاستفتاء على النائب الذى وضعه عبدالناصر فى طياته بعض صفات توريث الحكم الذى تهاجمه النخبة الآن وتقف ضده؟
- هذا أيضاً كان ظرفاً استثنائياً، عبدالناصر عين نائباً له عام ١٩٦٩ عندما سافر للمغرب لحضور أحد المؤتمرات هناك، وكان الغرض من وجود النائب هو «واحد يمشى الأمور فى حالة غيابه خارج مصر»، إذن فنظام النائب لم يكن أساسياً عند عبدالناصر، ولا ينبغى أخذه حجة حتى أسير على الدرب من بعده.
■ من المآخذ على نظام الرئيس عبدالناصر أن تعيينه لجميع الخريجين تسبب فى تضخم الجهاز الإدارى للدولة؟
- هذه رؤية رأسمالية لأنها تقوم على فلسفة الرأسمالية التى تقوم بدورها على توفير النفقات من أجل زيادة الأرباح، والرواتب جزء من النفقات، ولكن مشروع عبدالناصر كان مختلفاً، وهو منع البطالة، حتى تمنع الثورة والحركات الاحتجاجية، وحتى عام ١٩٦٢ كان هناك ٩ آلاف خريج من كليات عديدة لا يعملون بسبب سيطرة القطاع الخاص على أدوات الإنتاج، ومع القرارات الاشتراكية والسيطرة على المؤسسات فتح الباب أمام دور الدولة فى التعيين، فتم تعيين الـ٩ آلاف خريج الذين أصبحوا منذ تلك اللحظة «جيش الثورة»، ولا يمكن أن يخضعوا لأى أفكار معادية، وتلا ذلك تعيين كل من يتخرج فى الجامعات للسبب نفسه.
■ عبدالناصر أرسى قاعدة «نسبة ٥٠% عمال وفلاحين» داخل مجلس الشعب، وهو ما استغله البعض للحصول على مقاعد لا يستحقونها خاصة مع غياب تعريف واضح للعامل والفلاح، فما رأيك؟
- حتى نفهم لماذا فعل عبدالناصر ذلك يجب أن نشرح فكرة المشاركة الشعبية قبل الثورة، معروف أن حكم الهيئة التشريعية بمجلسى النواب والشيوخ كان فى يد الصفوة الاجتماعية آنذاك، وهم كبار ملاك الأراضى الزراعية وأصحاب رأس المال، وهؤلاء كانوا يسيطرون على مجلس النواب ومجلس الشيوخ بحكم قانون الانتخابات الذى اشترط أن الذى يرشح نفسه لمجلس الشيوخ يكون ممن يدفعون ١٥٠ جنيهاً ضريبة أطيان زراعية سنوية، وهذا يعنى أن ملكية المرشح للأراضى الزراعية لم تكن لتقل عن ١٥٠ أو ٢٠٠ فدان على أقصى تقدير، الشىء الآخر أن مجلس النواب لم يضع نصاباً مالياً إنما وضع شرطاً لمن يترشح للانتخابات، هو أن يدفع تأميناً قدره ١٥٠ جنيهاً لا ترد له إلا إذا حصل على ٥% من الأصوات، وهو ما يمكن تفسيره بأن مجلسى النواب والشيوخ والهيئة التشريعية وقعت فى يد أصحاب المصالح، كبار الملاك، وأصحاب رأس المال، ما الذى ينتظر من مجلس برلمانى يضم كل هذه النخبة الاجتماعية، بالطبع ستخرج كل التشريعات فى صالحهم، ومن هنا جاءت مشكلتا الفقر والبطالة، وعندما قامت الثورة كان لابد من تعديل ذلك النظام، طالما أن الثورة قامت فى الأساس لصالح الطبقة الوسطى والعمال والفلاحين، فيجب أن يمثلوا فى التنظيم السياسى ولضمان ذلك كان يجب أن تخصص نسبة ٥٠%، فهل يحاسب عبدالناصر لأنه أراد أن ينهض بشريحة كبيرة جداً من المجتمع المصرى كانت تحت أقدام الملاك والرأسماليين؟ ومن هم العمال والفلاحون، هم آباء الطبقة الوسطى، والخطأ ليس فى تخصيص نسبة للعمال والفلاحين، ولكن فى التلاعب بتعريف العامل والفلاح، والتعريف المطاط للعامل والفلاح هو الذى سمح بتعثر التجربة.
■ هل من السهل وضع تعريف واضح الآن؟
- الجمهورية الثالثة تأسست على الانفتاح الذى قام على عودة رأس المال، وللأسف هذا لم يكن تطورا طبيعيا، وإنما تطور مفروض، ففى عام ١٩٧٤ عندما زار نيكسون مصر مصطحباً معه وزير خزانته وليام سايمونس الذى التقى عبدالعزيز حجازى وزير الخزانة المصرى، كنت وقتها فى أكسفورد وقرأت فى الجارديان أن حجازى قال لسايمونس: «نحن نتطلع لأن تساعدنا أمريكا فى الاقتصاد، لأننا خارجون من اقتصاد حرب»، فرد وليم سايمونس قائلاً: «لا نستطيع أن نساعد الاقتصاد المصرى وهو (under public sector)، أى «تحت القطاع العام» فسأل حجازى: «وما هو المطلوب؟»، فقال: (liberalization) أى تحرير الاقتصاد، وهو ما حدث، وعندما عاد رأس المال تغيرت الخريطة الاجتماعية، وسيطر أصحاب رأس المال على الهيئة التشريعية، وساعدوا على استمرار ميوعة تعريف العمال والفلاحين، ليست الهيئة التشريعية فقط، وإنما السلطة التنفيذية التى سيطر عليها رجال الأعمال، فوجدنا رجل أعمال صاحب شركة سياحة يتولى وزارة السياحة، وآخر لديه مستشفى يتولى وزارة الصحة، ووزير الزراعة من عائلة ملاك أراض زراعية وهكذا، فتمييع تعريف العامل والفلاح موجود صحيح من عصر عبدالناصر، وسكت عنه هؤلاء الجدد ليسمح لهم بالسيطرة على الهيئة التشريعية والهيئة التنفيذية.
■ يقودنا هذا للاتهام الموجه للرئيس عبدالناصر بأنه زرع فى الناس العداء للملكية الخاصة، كيف يمكن فهم ذلك فى ضوء الإضرابات التى يقوم بها العمال حالياً بعد خصخصة شركاتهم؟
- الملكية الخاصة كانت موجودة قبل الثورة، ومنصوص عليها فى الدستور، ولكن هذا لم يمنع المطالب الاجتماعية التى تبنتها الحركة الشيوعية التى كانت تتكلم عن العدالة الاجتماعية، بل أكثر من ذلك كانت تطالب بتأميم القنال، وهذا موجود فى برنامج الحزب الشيوعى المصرى سنة ١٩٢١، والاعتراض لم يكن على الملكية الخاصة، وإنما الاعتراض كان على الاستغلال بدليل أن عبدالناصر طبق التأميم على وسائل الإنتاج الكبرى، وأبقى على الرأسمالية الوطنية على أساس أنها لا تستغل الناس، فأبقى على ورش النسيج الصغيرة فى حين أمم مصانع النسيج الكبرى، وهناك شىء آخر، فالناس لا تحتاج أحداً يعلمها الكراهية، الكراهية تنشأ عند الشعور بالظلم، وهذا يفسر لماذا بعد رحيل جمال عبدالناصر لايزال الناس الفقراء والطبقة الوسطى يكرهون الرأسمالية، لأنها مستغلة وتمتص دماءهم.
■ أم لأنهم تعلموا هذا ولقنوه فى مرحلة ما من تاريخهم؟
- هذا غير صحيح، الكراهية رد فعل للظلم الموجود، والذين يقولون مثل هذا الكلام يريدون أن ينفوا عن أنفسهم تهمة أنهم بتصرفاتهم جعلوا الناس يكرهونهم، فينسبون هذه الكراهية إلى جمال عبدالناصر الذى علم الناس الكره ولم يعلمهم الحب، شىء عجيب.
■ هناك من ينسب للرئيس عبدالناصر تهمة تأليه المواطن عبر تلقينه شعارات جوفاء لم تحقق فائدة لأحد، كيف ترى هذا الاتهام؟
- هذا شىء طبيعى عندما يأتى عبدالناصر ليقول «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعمار»، فهذا شىء غير سيىء، لك أن تتخيلى سمعة مصر فى الخارج وقتها كيف كانت، الذين يرددون هذا الكلام لو عاشوا فى العزب والوسايا، تحت سيطرة المالك الكبير وعرفوا معنى حكم الكرباج والأكل بالكاد، لعرفوا معنى الكرامة التى زرعها عبدالناصر لدى المواطنين، وجعل الناس يشعرون بها، يكفى أنه ينزل ويجلس مع الفلاحين، ويشرب من القلة، وهذا رأيناه بأعيننا، لم يكن مصنوعاً بـ«صورة تعبيرية وفوتو شوب».
■ وماذا عن شحن المواطنين بالشعارات الجوفاء؟
- عندما نقول «نسالم من يسالمنا ونعادى من يعادينا»، ما المشكلة، الشعار يعبر عن مبدأ، والمبادئ موجودة فى كل الأنظمة السياسية فى العالم، وعندما جاء أوباما كان شعاره «yes we can chnge» هل نسأله اليوم: «فين الشعار؟»، وكل من قال إنها دولة الشعارات اعتذر بعد ذلك، مثلما حدث مع نزار قبانى الذى قال «العنتريات التى ما قتلت ذبابة»، عاد مرة أخرى ليقول «قتلناك يا آخر الأنبياء»، كما اعتذر نجم عن قصيدته التى قال فيها «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا»، وهكذا من يهاجم عبدالناصر عادة لا يهاجمه فى صميم الكلام وإنما يقول إنه كان يهاجم أمريكا، وضيع أموالنا، وهذا كلام «ليس له رجلين.. ده كدب وحبل الكدب قصير» وأى كلام يقال يفند بسهولة جداً لأنه خارج المنطق وخارج طبيعة ما حدث من أمور.
■ من تأليه المواطن لتأليه الحاكم، البعض يعتبر عبدالناصر رمزاً لا يمكن الاقتراب منه أو مهاجمته؟
- هذا حق يقصد به باطل، تأليه الحكام فى مصر موروث ثقافى من أيام الفراعنة، ونستدل على هذا بأسماء ملوك الفراعنة، يعنى «رع مسيس» تعنى ابن رع، و«تحوت مس» تعنى ابن تحوت، وعندما نزلت الأديان السماوية لم يعد الملك يزعم أنه ملك إله، وإنما أصبح مفوضاً إلهياً، وعبدالناصر لم يكن أول من لقب بالزعيم، كان هناك الزعيم سعد زغلول، والزعيم مصطفى النحاس الذى تحول فيما بعد للرئيس الجليل، وإذا كانت الناس ألهت عبدالناصر أو قدسته فبسبب أعماله، وهذا شىء طبيعى، الولاء لدافع الأجر، أما الذين لا يقدسونه وسموه المفترى فهم أولئك الذين أضيرت مصالحهم بدءا من الإصلاح الزراعى إلى التأميم إلى الإبعاد والعزل السياسى، وهذا شىء نعذرهم فيه، ولكن لا يعنى أن موقفهم صحيح.
■ الحديث عن أحمد فؤاد نجم ونزار قبانى يقودنا للحديث عن النخبة المثقفة التى تعادى كل من يجرؤ على الاقتراب من عبدالناصر، كيف يمكن فهم موقفهم خاصة مع الأذى الذى تعرض له بعضهم؟
- هناك نظرة موضوعية للأمور، ويظهر هذا فى رؤية الشيوعيين والإخوان المسلمين، كلاهما له رؤية مغايرة رغم أن الطرفين سجنوا فى عهد عبدالناصر، إنما الموضوعية لم تمنع مفكراً بحجم محمود أمين العالم أن يرسل لعبدالناصر برقية تأييد بعد قرارات التأميم فى بداية الستينيات، وأى تجمع ناصرى فى سوريا أو لبنان أو المغرب يعنى أن أصحابه لديهم رؤية فى شيئين، العدالة الاجتماعية، وقضية العروبة، وقضية فلسطين فى المركز منها، وهم لا يرضيهم أن يهاجم عبدالناصر دون وعى، هناك «نقد» نعم، وهناك أيضاً «نقض» بالضاد، يريد صاحبه أن يقلب الدنيا، وهناك جزء آخر من النخب السياسية هوايته انتقاد عبدالناصر بالحق والباطل من أجل الظهور، وكأنه تصريح لهم بدخول دولة الحكم فى مصر أو أى مؤسسة من مؤسساتها،
وأذكر أننى كنت قد قابلت صحفياً سعودياً اسمه عبدالله الجفرى فى سنة ٨٢ فى لندن، وقال لى إن السعودية تسيطر على كثير من الصحف فى العالم العربى بل فى أوروبا عن طريق مكافآت حتى تمنع نشر أى أخبار أو مقالات ضدها، وفى نفس الوقت تدفع لمن يقوم بالهجوم على عبدالناصر والاتحاد السوفيتى، وسمى لى أسماء فى مصر هنا، وعندما بدأت أقرأ كُتّاب أعمدة تأكد لى هذا الكلام، خاصة عندما قال لى إن بعض الكتاب كان يتم رشوتهم عن طريق دعوتهم للحج أو العمرة، ويعود صاحب الدعوة ليكتب «رأيت الله فى مكة».
القومية العربية.. حلم تحول بعد «ناصر» إلى عقدة
٢٨/ ٩/ ٢٠١٠
عبدالناصر فى أحد الاحتفالات مع بعض القادة العرب
تبقى القومية العربية المشروع الأكبر الذى سعى إليه نظام عبدالناصر والحلم الأكبر الذى حشد قواه السياسية والعسكرية والفنية لتحقيقه، انعكس ذلك على وجدان المواطن المصرى وقتها فآمن بالفكرة وردد نشيد «وطنى الأكبر»، ورحب بالوحدة المصرية السورية التى تم الإعلان عنها فى ٢٢ فبراير ١٩٥٨، بتوقيع ميثاق الجمهورية المتحدة من قبل الرئيسين السورى شكرى القوتلى والمصرى جمال عبدالناصر. اختير عبدالناصر رئيسًا والقاهرة عاصمة للجمهورية الجديدة.
وفى عام ١٩٦٠ تم توحيد برلمانى البلدين فى مجلس الأمة بالقاهرة وألغيت الوزارات الإقليمية لصالح وزارة موحدة فى القاهرة أيضًا. أنهيت الوحدة بانقلاب عسكرى فى دمشق يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٦١، وأعلنت سوريا قيام الجمهورية العربية السورية، بينما احتفظت مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة حتى ١٩٧١ عندما سميت باسمها الحالى جمهورية مصر العربية، الوضع الحالى يؤكد أن ما تبقى من القومية العربية لدى النظام السياسى المصرى بعد أزمة الجزائر والمناوشات المتتالية مع قطر وسوريا لا يتجاوز أوبريت «الحلم العربى».
يرى الدكتور محمد رفعت، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، فى جامعة الإسكندرية أن فكرة القومية العربية اغتيلت فى عهد عبدالناصر، وأن تفكك الوحدة عام ١٩٦١ لم يكن سوى نواة لاغتيال الفكرة بالكامل عقب نكسة ١٩٦٧، ويقول «تم وضع مخطط لاغتيال القومية العربية ونجحت بالفعل عقب نكسة يونيو، وبقى مصطلح «القومية العربية» و«الوحدة العربية» مجرد ورقة من ضمن الأوراق العربية التى يتم إبرازها وتداولها فى حالات الفشل والانتكاسات فقط، لأن هزيمة عبدالناصر فى القومية العربية كانت هزيمته الأكبر، والنظام الحالى ليست له علاقة بالقومية العربية وإنما يستخدم المصطلح فقط فى المناسبات الرسمية، وانعكس ذلك على المواطن المصرى الذى لم يعد يؤمن بالقومية العربية، فإهانة المصرى فى البلاد العربية وتعرضه لمضايقات أثر على العقل الجمعى المصرى وجعله رافضا كل ما هو عربى».
تخالف الكاتبة سكينة فؤاد الرأى السابق وتصر على أن القومية العربية لم تفشل فى عهد عبدالناصر، لكنها حوربت فقط، وتقول «المشروع القومى العربى ظهر موازيا للمشروع الصهيونى فكان لابد من الخلاص من عبدالناصر كشخص حتى يمتد المشروع الصهيونى ويفرض هيمنته ويتكون ما يسمى الشرق الأوسط الجديد ويصبح الوطن العربى مجموعة من الكيانات المتشرذمة».
وتضيف سكينة فؤاد أن فكرة القومية العربية ليست اتحاد مجموعة من الدول المتجاورة التى يجمعها تاريخ مشترك فقط، لأن الدول الأوروبية لم تكن بينها القواسم المشتركة الموجودة بيننا ونجحت فى الاتحاد، وأساس القومية هو تكوين اتحاد قائم على المصالح والمنافع المشتركة، وهو ما لا يدركه العرب الآن لأنهم يسعون إلى حالة من الرضا الأمريكى.
وعن اتجاه «مصر للمصريين» تعلق سكينة «مصرية مصر لا تتعارض مع فكرة القومية العربية لأن من يقول إن مصر أعطت دون مقابل يتناسى ما أخذته مصر فى حربى ١٩٥٦ و١٩٧٣ من دعم عربى، لكن الديكتاتوريات الحاكمة اهتمت بذواتها وانكمشت على نفسها. ويرجع الدكتور عمار على حسن فكرة القومية العربية إلى ما قبل عهد عبدالناصر، ويقول «فكرة القومية العربية تسبق النظام الناصرى ولا يجب أن نحصرها فى شخص عبدالناصر فقط، فالشعوب العربية فكرت دائما فى هذا المشروع لكى تصبح من الأمم الكبرى.
ويضيف عمار على حسن أن سبب فشل مشروع قومية عبدالناصر هو أفكاره الخيالية بحصر فكرة القومية فى دولة واحدة برئيس واحد ولم تتطور إلى فكرة الدولة القطرية التى تعمل على تنسيق مشترك من أجل مصالح مصر الحيوية وأمنها القومى.
مواطن فى الـ«٧٠»: لو «ناصر» زرع صح كان حصد صح.. لكن «الزرعة باظت» منه
٢٨/ ٩/ ٢٠١٠
قالها أولا الرئيس جمال عبدالناصر، وجاء السادات ليؤكد عليها، وتبعهما مبارك على الخطى، لكن فارقا كبيرا بين منهج الثلاثة فى الحفاظ على «اللامساس» ففى حين وضع ناصر أسس ذلك الشعار، وشعر به المواطن، سار السادات على الأساس نفسه، ولم يطوره، فتوقف إحساس المواطن به، بينما نشط مبارك فى ترديد الشعار، وإن تحول إلى النقيض تماما، وانسحب الأداء نفسه على كل الشعارات التى وضع ناصر حجر أساسها، ولم يستكملها أحد من بعده.
ومع مطلع العام المقبل، يتم المواطن محمد حسين حجازى عامه السبعين، ومع احتفاله بيوم مولده، قطع على نفسه عهدا منذ أن كان صبيا يشارك زملاءه الطلاب حركة الجهاد ضد الاستعمار وقال: تفتكروا ممكن الواحد يعيش لحد ما يبقى عنده ٧٠ سنة؟.. لو ربنا كرمنى وعشت للسن ده هاكتب كتاب أحكى فيه تاريخ مصر من وجهة نظر مواطن.
يشرح حجازى فكرته ويقول: التاريخ يكتبه الحكام بأفعالهم، وأغلبها إما ضد المواطن أو لصالحه، ولم يفكر أحد كيف ينظر المواطن إلى هذه الأفعال، وهل يشعر بها، أم تمر مرور الكرام، لذا قررت أن أحكى تاريخ مصر الذى عاصرته، بصفتى مواطنا، أحب زعيما، وكره حاكما، وشجع قرارا، ولم يستطع أن يقف ضد آخر، وتلقى كل ما حدث لمصر بمنطق أنه «لا راد لقضائه»، وفسرت أحلامه اليومية الآية الكريمة «وما تدرى نفس بأى أرض تموت».
يوم لا ينساه حجازى، عندما خرج فى جنازة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، دموعه تسبقه ولسانه لا يتوقف عن ترديد «لا إله إلا الله عبد الناصر حبيب الله».. بكى فى الجنازة قبل ٤٠ عاما وهو يتذكر ما فعله الرجل له كمواطن، والمزايا التى قدمها لفئة المواطنين، وبكى أيضا عندما تذكر حاله الآن، وما آل إليه بعد رحلة كفاح تجاوزت نصف قرن.. حجازى يحمل عبد الناصر مسؤولية الأحوال الآن، ويبرر موقفه هذا: «أصله لو زرع صح كان حصد صح، لكن الزرعة باظت منه». حجازى لم ينف أنه ليس ناصريا، لكنه أكد: «ولا ساداتى ولا مباركى»، ويقول: عمرى ما اتحسبت على رئيس جمهورية، أنا محسوب على مصر، وهم موظفين عندى كمواطن، وعند مصر، يبقى إزاى اتنسب لحد فيهم؟.. وأضاف: كل الإنجازات التى تحققت لنا كمواطنين فى عهد ناصر، فشلت بعد وفاته، وتجاهل من جاء بعده ذلك البناء الذى وضعه ناصر، فلم يكملوه، بل انهار منهم، ولم يبق منه سوى لافتات وشعارات.
يتذكر حجازى أحد هذه الشعارات «سأحافظ على مجانية التعليم».. ثم يبتسم: فعلا عشنا خمس سنوات والتعليم مجانى، ثم فرض الغلاء نفسه على كل شىء، وأصبح دخول المدرسة للقادرين فقط، وعرفنا التسرب من التعليم، وجاء السادات ولم يغير كثيرا فى الواقع، ولم يحافظ على مجانية التعليم التى رفعها ناصر شعارا من شعارات الثورة، لكنه حافظ على الشعار، وربما ردده أكثر مما ردده صاحب الفكرة الأصلية، الغريب حقا أن الشعار مازال موجودا حتى الآن، فى زمن وصلت فيه مصروفات الحضانة لأكثر من ٥ آلاف جنيه، وعرفنا فيه كل أنواع التعليم، وتوقفت فيه جودة التعليم على قيمة المصروفات المدفوعة.
كان حجازى ينتظر ثورة تصاحب شعار التعليم المجانى، لأن التعليم أساس النهضة، لكنه فؤجى بالعكس: «والنبى العيال اللى رايحين جايين على المدارس فاهمين حاجة؟!.. دى البهايم بتفهم عنهم».. واسترسل: حاول عبدالناصر أن يحقق الأهداف الـ٦ لثورة يوليو، وبالفعل حقق فى عهده ٥ أهداف، لكنها لم تستمر من بعده، أما الهدف السادس وهو الديمقراطية، فلم يتحقق حتى الآن، وما تحقق منه فى عهدى السادات ومبارك، مجرد قشور، لا تفى بالهدف الذى وضعته الثورة وقت انطلاقها.
ويتذكر حجازى فى خطبة من خطب ناصر، أنه وعد بأن يعود بالأسعار إلى أسعار سنة ٦١، وبالفعل وفى بعهده، لكنها كانت المرة الأخيرة، فرغم الحفاظ على شعار «لا زيادة فى الأسعار» طوال خمسين عاما، فإن الأسعار تزيد يوما بعد آخر، دون مبرر وبشكل هيستيرى، وكل يوم نقرأ الشعار فى إحدى الصحف القومية، «لامساس» وعندما ننزل لتطبيقه، نجد أسعارا أخرى.
ويضيف حجازى : قالها عبدالناصر قبل سنوات «صحة المواطن خط أحمر» لذا أتاح العلاج المجانى فى المستشفيات، واستمر السادات ومبارك على النهج نفسه، بل تطور الوضع على أيديهما، فلم تعد المستشفيات تقدم العلاج والكشف مجانيا فقط، بل أصبحت تُريح المواطن من حياته، فيدخل المواطن المستشفى على قدميه، لكنه يخرج منها على ظهره، وعرفنا أنظمة علاج كثيرة على نفقة الدولة، تضر صاحبها أكثر مما تنفعه.
احنا بنينا السد العالى» كان يرددها وهو يتذكر كلام عبدالناصر ووعوده بأن السد سيتيح لنا إنتاج الكهرباء، وأن سعر الكيلو منها لن يتجاوز مليمين، وتحققت وعود ناصر فى حياته وحافظ عليها السادات بعض الشىء من بعده.