محاسن (مصطفى الفقى)
«اذكروا محاسن موتاكم»، هكذا يقول المأثور الشعبى الذى صار مثلا، يعود فى جذوره إلى زمن الفراعنة، حيث كان على الميت فى محاكمته ليفوز بالجنة، أن يؤكد أمام أوزوريس، قاضى قضاة العالم الآخر، أنه عاش حياته كلها محسنا لم يقترف ذنبا، فهو لم يسرق ولم يتلصص ولم يكذب وهكذا، وكانت هذه الاعترافات تكتب فى كتاب الموتى، ويرددها المرتلون المصاحبون للجنازة، حتى صار ذكر محاسن الموتى إحدى الخلال الصالحة للأحياء، فصارت مثلا.
أقول هذا بمناسبة تلك السلسلة من المقالات الشيقة، التى يكتبها الدكتور مصطفى الفقى، الذى أحبه وأحترمه، فى صحيفتنا الغراء «المصرى اليوم» عن الكثير من الرموز المصرية: ساسة، وفنانين، وشيوخ، ومفكرين وغيرهم، والملاحظ هنا أن جميع من تناولهم الدكتور من الأخيار والأطهار، الذين ضربوا المثل فى النزاهة والاستقامة وأفنوا عمرهم فى خدمة أوطانهم ومبادئهم، رغم أن الكثيرين منهم نعرفهم ونعرف أنهم ليسوا ملائكة وإنما ناس من الناس، يكذبون وينتهزون الفرص وينافقون ويجبنون، ثم إذا كانت تلك الشخصيات الشهيرة بكل هذه الملائكية، فمن أين يأتينا كل هذا الشر، ولماذا نعيش فى كل هذا العبث والفساد والفقر؟!
فمتى نرى الدكتور الفقى يكتب عن ذلك الوزير- الذى بدأ حياته ثورياً مقاتلاً، حيث كان النظام يختار رجاله من الثوريين، ثم انتقل إلى حزب التجمع حين كان لليسار سوق، وعندما راجت الخصخصة استقال من التجمع، وراح يدبج المقالات والأبحاث عن جمال الخصخصة، وحتمية التخلص من القطاع العام، حتى اختير وزيرا وحوكم ابنه فى قضايا نصب بملايين الجنيهات.
ومتى يكتب عن الكاتب الشهير، الذى خلا أحد المناصب الوزارية، فظن نفسه مرشحاً قوياً، فلما جاءها وزير من وراء البحار، ثار الكاتب وراح فى مقالاته يسلق بألسنة حداد، ذاكراً ما خفى من سيرته الخاصة، حتى مشى الوسطاء بين الكاتب والوزير وعقدت صفقة بمقتضاها تشترى الوزارة إحدى مسرحيات الكاتب بعشرات الآلاف من الجنيهات، قبضها الكاتب وراح يشيد بالوزير الفذ.
ومتى يكتب عن وكيل الوزارة، الذى هبط عليها من الجهات العليا، وحاول الوزير تحجيمه ففشل، وراح صاحبنا المسنود يستغل نفوذه ووظيفته فى طلب الرشوة مالية كانت أو جنسية، حتى أوقعه حظه العاثر فى سيدة حرة، لها مصلحة مهمة لديه، فضرب لها موعداً مسائياً فى الوزارة، فأبلغت الأمن، الذى أعطاها المال والكاميرا السرية، وأستأذن الوزير فأذن، وفى الوقت المناسب اقتحم رجال الأمن مكتب الوكيل واقتادوه بملابسه الداخلية، والوزير ناظر من شباك مكتبه، «يزغرد فى عبه» وهو يرى الموكب الصاخب يخرج من باب الوزارة الكبير.
ومتى يكتب عن الوزير الأديب الشهير، الذى أقام مجده الأدبى وأعماله الرومانتيكية على شراء خلاصة إبداع الأدباء من الشباب الفقراء، نظير وظائف صغيرة أو أموال قليلة، ومتى يكتب عن المناضل الكبير الذى اتخذ من إحدى الدول المجاورة قاعدة لنضاله ضد نظام السادات، واتفق مع السلطات هناك على بناء تنظيم سرى موالٍ فى مصر،
وكانت الدفعة الأولى من نفقات التنظيم حقيبة ملأى بمئات الآلاف من الدولارات، حملها صاحبنا ليدخل بها مصر عبر إيطاليا، وبعد أن وضع الأموال فى حساب سرى باسمه، شج رأسه وسقط، لتعثر عليه الشرطة غارقاً فى دمائه، ويعود محملاً بمحاضر رسمية من الشرطة والنيابة والمستشفى، وتهمة معلقة فى رقبة المافيا وهى منها براء.
وعشرات النماذج الشهيرة يعرفها الدكتور، ولكنه لعشقه لتراث الأجداد، ودماثة خلق أصيل، لا يذكر إلا المحاسن للأموات والأحياء جميعا.