المسيرى.. مشهورا رحمة اللة علية حزنتة الناس وفرحت فية الحكومة
فى ٨ من أكتوبر ١٩٣٨ ولد عبدالوهاب المسيرى لأسرة تمتهن التجارة، والثروة مصدر شرعيتها، لكنه اختار البحث العلمى لمسيرته، وأثناء وجوده ببعثته للحصول على الماجستير والدكتوراه فى الولايات المتحدة الأمريكية تعرف على الدكتور أسامة الباز الذى قدمه للأستاذ محمد حسنين هيكل، والأستاذ بدوره أدرك إمكانيات المسيرى الفكرية ففتح لكتاباته صفحات «الأهرام»، وعينه مسؤولا عن وحدة الفكر الصهيونى فى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، بل اختاره الأستاذ كأحد مستشاريه عندما قبل الوزارة، وبذا حظى المسيرى بشهرة عوضته وشغلته عن الثروة.
وفى هذه الأجواء سافر إلى الولايات المتحدة مرة أخرى مرافقا لزوجته هدى حجازى فى رحلتها للحصول على الدكتوراه، لكن أشياءً كثيرة حدثت خلال فترة الغياب تلك، فمع عودتهما عام ١٩٧٩ كان مناخ التطبيع مع إسرائيل سائدا فى القاهرة، واختفت وحدة الفكر الصهيونى من الوجود، وأغلقت الأهرام صفحاتها قبل أبوابها فى وجه الدكتور عبدالوهاب، فأصبح بلا شىء تقريبا إلا عمله الجامعى،
فنشبت المعركة الأكبر بداخله، فهو يحب الشهرة وأجواءها، لكنه إن استسلم لرغبته هذه طبقا للشروط الجديدة التى يفرضها المجتمع من حوله، فسيكون كمن كسب معركة وخسر الحرب، وهو ما لا يرضاه لنفسه أو لمسيرته، فقرر العمل راضيا بعيدا عن الأضواء، واحتمى بكل ما هو جميل وأصيل فى مواجهة ما هو مستحدث وغريب، الأمر الذى ساعده على إنجاز موسوعته الأهم عن اليهود واليهودية والصهيونية.
ثم كان من الطبيعى والبشرى فى آن، أن يلح عليه وسواس الثروة، فهى جزء أصيل من ميراث عائلته، وقد تعوضه ما فقد من شهرة وحضور عام، فأتت المعركة الأخرى لتأخذ مكانها بداخله، معركة حقه فى الثراء، لكنها حسمت سريعا، فالمسيرى اختار الحكمة بدلا من الثروة.
وهكذا حسم الدكتور عبدالوهاب خياراته، ممتلئا ثقة بمقدرة الإنسان على تغيير واقعه وإقامة العدل فى الأرض، متبنيا كل ما هو أخلاقى وحضارى، فحارب نفسه ورغباتها لينتصر لذاته الإنسانية وقيمها، وواجه رغبته فى أن يكون ثريا أو مشهورا بالاحتماء بما هو أبقى، فانتصر على ما سماهم الذئاب الشرسة التى أرادت أن تنهشه: ذئب الثروة، وذئب الشهرة، إلى جانب الذئب الهيجلى المعلوماتى، كان أمامه إما ألا ينشغل إلا بنفسه وأبحاثه ويبقى فى أمريكا حيث الرفاهية والمستقبل، كما فعل غيره، أو أن يذوب فيما طرأ على مصر من تحولات دراماتيكية فينال نصيبه من الكعكة.
لكن وبفطرته النقية التى لم تتوار حتى لحظة مماته، انطلق نحو البحث عن القيمة وعن الهدف النهائى من الوجود، وغاص فى الفكر يبلور نماذج تفسر له ما يحدث من حوله ضمن إطار كلى، فشكل رؤيته الإنسانية، وجعلها مرجعيته النهائية فى مقابل ما يسود العالم من فردانية وصراع فى إطار الرؤية المادية، التى سلبت من البشر إنسانيتهم، وقذفت بهم فى دوامة التناحر بدلا من التعاون.
هذا هو المسيرى، هذا هو المثقف الحق الذى لا يسلم بالأمر الواقع، والذى لا يقبل بالبراجماتية فى القيم، ولا بالهروب منزويا يائسا من واقع يطيح بكل ما هو جميل، بل سعى بإيجابية ليخط طريقا ثالثا، هذا هو الفيلسوف والمفكر الإنسان الدكتور عبدالوهاب المسيرى، الذى سعت إليه شهرة وثروة مستحقتان فى آخر سنوات عمره السبعين، فنالهما مضافا إليهما حب واحترام وتقدير كل من عرفه أو اقترب من فكره، فهل أنتم متبعون؟!