الخبير الاقتصادى د.حازم الببلاوى مستشار صندوق النقد العربى: حكومة نظيف تفهم الاقتصاد نظرياً.. ولا تهتم بارتفاع الأسعار الذى «يهرس» الفقراء (٢-٣)
«ترشيد نفقات الحكومة».. حل يقدمه الدكتور حازم الببلاوى لمواجهة الحاجة إلى الأموال اللازمة لمتطلبات الإنفاق فى الدولة، بدلاً من زيادة الضرائب، فهو يرى أن النفقات كثيرة وطرق الالتفاف فيها لا حصر لها، والتبذير الحكومى لا حد له ولا رقابة عليه.
ويتهم الببلاوى الحكومة بأنها غير صادقة تماماً فيما تعرضه فى الموازنة كل عام، فهى تظهر ما تريد إظهاره، وتخفى ما لا يروق لها، وذلك بمعاونة «الشطار» الذين يتحدث عنهم فى الحلقة الثانية من هذا الحوار، بوصفهم قادرين على «تستيف الأوراق»، ويأتى على رأسهم فى رأيه الدكتور يوسف بطرس غالى، وزير المالية، الذى فعل ما لم يستطع أن يفعله جميع وزراء المالية السابقين، وهو نقل تبعية أموال التأمينات والمعاشات لوزارته واستثمارها فى البورصة، فإلى نص الحوار..
■ دكتور حازم نستكمل سوياً الحديث حول صندوق النقد والبنك الدوليين، وما قيل عن أنهما اشترطا على مصر حظر الاستثمار مرة أخرى فى الصناعة؟
- أنا لا أعتقد أن صندوق النقد والبنك الدوليين يستطيعان تحت أى نظام قانونى أن يفرضا هذا، نظام البنك الدولى يقرضك قرضاً لمشروع ما، وهذا القرض وفق مجموعة من الشروط، وعندما تنتهى من سداد القرض «يبقى سلامو عليكم»، نعم هو يقدم القرض لغرض ما ويمنعك من تحويل قيمته لغرض آخر، وقد يأتى فى الشروط أن البنك يطلب ألا تزيد نسبة العجز على درجة معينة فى مدة القرض، وأنت مضطرة للالتزام بذلك فى مدة القرض، ولكن عدم الاستثمار فى الصناعة شأن داخلى لم تفرضه المؤسسات العالمية.
■ كم يبلغ حجم مديونية مصر للبنك الدولى؟
- مديونيتنا لم تعد كبيرة، فى حدود المعقول، يقال إن لدينا احتياطيات فى حدود ٣٢ أو ٣٤ مليار دولار، وأعتقد أن مديونيتنا للخارج قريبة من هذا الرقم.
■ إذاً أين المشكلة، هل هى فى العجز الداخلى؟
- العجز الداخلى فى تزايد، وهو ما يقود إلى التضخم، فهناك نقود لا تقابلها سلع، مما يدفع إلى ارتفاع الأسعار.
■ وكيف نقلل العجز؟
- عن طريق تخفيض النفقات، العجز عبارة عن نسبة وتناسب بين موارد الدولة المتمثلة فى الضرائب، وقناة السويس، والبترول، والمصروفات المتمثلة فى رواتب الموظفين، والطرق، وميزانية الصرف الصحى ومياه الشرب، إلخ.. والملاحظ أن الحكومة كلما واجهت مأزقاً ما حاولت زيادة الإيرادات، بأن ترفع الضرائب وتخفض الدعم، وهكذا، لكن هناك المسكوت عنه وهو تخفيض النفقات، فالنفقات فى مصر فيها الكثير من «اللخبطة»، فى مقدمتها فوضى الأجور كما قلت، ومثال على ذلك ما يظهر جليا فى وزارة التربية والتعليم، فوزارة التعليم معنية بالمعلم فى الأساس، لكن أريدك أن تجرى إحصائية لمعرفة عدد المعلمين ونسبتهم إلى عدد العاملين فى الوزارة وديوانها. فكل معلم كبر بعض الشىء يرقى إلى درجة مدير، يترك الفصل ويذهب إلى الديوان، ونحن فى حاجة لشخص يضع المناهج وليس مائة، فهناك عدد ضخم من المدرسين الذين من المفترض أن يعملوا كمعلمين لأبنائنا جالسون فى المكاتب، لأن المكاتب فيها بدل لجان، وبدل سفر، وفيها مزايا كثيرة، وليس وجع دماغ ووقفة فى الفصل ومسك الطباشير، كذلك وزارة التربية والتعليم لديها ميزانية لنشر الثقافة، معلوماتى عبر الناشر الذى أتعامل معه أنهم يبددون هذه الميزانية فى مطبوعات لا قيمة لها، وقياساً على ذلك فى كل مؤسسة نجد فارقاً كبيراً بين نسبة عدد الفنيين ومن يقومون بالخدمات الإدارية، لذا أرى أن الجهاز الوظيفى فى مصر يحتاج إلى إعادة نظر، عموما الترشيد فى الإنفاق لا حدود له فى مصر إذا أردنا ذلك، لكن الحكومة تسلك الطريق الأسهل لتوفير احتياجاتها من الأموال وهو فرض الضرائب وليس ترشيد النفقات.
■ هل تتابع مناقشة موازنة الدولة فى مجلس الشعب والجدل الذى يحدث حولها كل عام؟
- ببساطة الحكومة تمارس الشطارة والفهلوة فى كل مرة تناقش فيها الموازنة العامة، مثال على ذلك فى سنة من السنوات أقمنا دورة أفريقية، وأعلنت الحكومة أن الدورة لم تكلفنا سوى ٣٠ مليون جنيه، وتم تجاهل أن هناك مطبوعات تخص الدورة طبعت من ميزانية وزارة الثقافة لم تظهر فى النفقات، بل ظهرت فى نفقات وزارة الثقافة على أنها مطبوعات وفقط، كذلك المواصلات التى استخدمت تمت استعارتها من وزارات أخرى، وأشياء كثيرة لم تظهر فى النفقات الخاصة بالدورة وتم استجلابها من جهات كثيرة وستفت الأوراق، لذا لا تستطيعين أن تضعى يدك على الحقيقة مع عدم وجود الشفافية وانعدام المعلومات.
أذكر أيضا عندما كنت رئيساً لبنك الصادرات كان هناك تقييد على المصروفات، وكنت فى زيارة لمكتب وزير الاقتصاد، وقال لى سائق الوزير «أنا تبعكم»، قلت له: كيف؟ فعرفت منه أن الوزير غير قادر على شراء سيارة من ميزانية الوزارة، فاستعان بشركة من الشركات التابعة له لشراء السيارة، واستعار موظفاً من بنك الصادرات ليكون سائقاً للسيارة، ومثل ذلك كثير من سبل الالتفاف.
■ فى حوار أجريته مؤخراً مع الدكتورة عائشة راتب، تطرقت إلى تكلفة الإقامة الدائمة للرئيس فى منتجع شرم الشيخ بعيداً عن العاصمة وانتقال الوزراء إلى هناك بالطائرات، وأشارت إلى أن ذلك نموذج لزيادة النفقات، فهل أنت مع هذا التصور؟
- الكلام عن نفقات الرئيس مع عدم وجود شفافية بخصوصها لن يؤتى ثماره، ولكن الأهم هو النفقات الأخرى فى مؤسسات الدولة.
■ وماذا عن القدوة كأضعف الإيمان، مع التسليم جدلا بأن توفير نفقات الرئاسة ليس هو الذى سيحدث الفرق؟
- أنا معك فى مسألة أن القدوة مطلوبة، فخطورة الأمر فى تأثيره على الآخرين، ولكن بشكل عام نفقات الدولة بها الكثير من جوانب التبذير التى من الممكن ترشيدها دون أن يؤثر ذلك على الأداء العام للدولة.
■ هل تظهر نفقات الرئاسة فى الموازنة العامة للدولة؟
- تظهر كرقم مجمل وبدون تفاصيل.
■ باعتبارك خبيراً اقتصادياً كيف ترى موضوع الدعم وكيفية الخروج من هذا المأزق ما بين مواطن يحتاج إلى دعم حقيقى وآخر غنى يستمتع بدعم الدولة، وحكومة غير قادرة على تحديد مستحقى الدعم؟
- أولاً ليس هناك شىء اسمه دعم رغيف العيش أو دعم أنبوبة البوتاجاز، الدعم يجب أن يكون للفقير وليس لمنتج بعينه.
■ بمعنى؟
الحكاية ببساطة أن الطريقة المتبعة الآن فى الدعم طريقة خاطئة، الدولة تدعم الدقيق وتبيعه للمخابز بثمن رخيص ولو باعه صاحب المخبز فى صورة خبز سوف يخسر، خاصة أن عنده عشرين شخصاً مستعدين أن يأخذوا منه هذا الدقيق ليصنعوا به حلويات بسعر أكبر بعشرة أضعاف، الطريقة المعمول بها حاليا فى الدعم باختصار هى وسيلة لزيادة الفساد، بينما هناك طرق أخرى أفضل لحل أزمة الدعم وأكثر نجاحا.
■ مثل ماذا؟
- نظام «البونات» مثلا، أى أن تعطى الحكومة من تريد دعمهم بطاقات وتترك المخابز تبيع بالسعر الحقيقى، رغيف الخبز مثلا يباع بخمسين قرشاً لكل المواطنين، ويذهب المواطن المدعوم يدفع عشرة قروش والباقى بونات، وهكذا فى كل أشكال الدعم، يحصل المواطن على عدد من البونات يستخدمها فى العلاج فى شراء السلع ومن الممكن أن تأخذ الحكومة البونات من التاجر بسعر يحقق له نسبة ربح لتحفيزه على أن يقبلها من المواطن.
■ إذا ما كانت الحلول متوافرة هكذا لماذا تشعرنا الحكومة أن أزمة الدعم واختيار الشرائح التى تستحقه أزمة صعبة؟
- لأن دعم رغيف العيش وغيره من أشكال الدعم لم يعد قضية اقتصادية فقط وإنما قضية سياسية، ومشكلة الدعم أن هناك وسطاء عملوا ثروات من الدعم، فكأنما الدولة تصرف كل هذه المبالغ للوسطاء وليس للفقراء.
■ ما رأيك فى حكومة الدكتور نظيف التى توصف أحيانا بحكومة رجال الأعمال وأحيانا بحكومة خبراء الاقتصاد؟
- لا شك أن المجموعة الاقتصادية تفهم الحياة الاقتصادية نظرياً على الأقل، وعلى دراية واسعة بما يجرى فى المجتمع الدولى فى الشأن الاقتصادى، لكن يعيبهم أنهم ليسوا على درجة كافية من الاهتمام بالبعد الاجتماعى للسياسات الاقتصادية، ويميلون أحيانا للفهلوة وأشطرهم فى هذا يوسف بطرس غالى، «إزاء أى موقف صعب يقدر يخلص نفسه بكلام يلخبط اللى قدامه، ويبان إنه عنده الحل»، هم شطار فى العلاقات العامة، يجيدون الكلام وبلغة مقبولة عالمياً.. «يقدروا يستفوا المنظر والأوراق كويس»، فمثلا فى سنة من السنوات أصدر البنك الدولى تقريراً عن مؤشرات التيسيرات التى يحصل عليها المستثمرون فى بلاد العالم المختلفة، وكان موقع مصر فى التقرير متأخراً، فى السنة التالية أصبح موقع مصر فى التقرير متقدماً جداً، المسألة هى كيف تعرضين القضية، وهذا يحتاج لقدر من الشطارة، وهم عندهم هذا القدر من الشطارة.
■ إذا كانوا بهذه الشطارة لماذا لم يخرجونا من المأزق الذى نعيشه؟
- مؤشرات الاقتصاد الإجمالية فى عهدهم جيدة، ويفاخرون بمعدلات النمو، لكنهم لم يعطوا أهمية كبيرة لارتفاع الأسعار التى تهرس الطبقات الفقيرة، ويبررون رأيهم بأن كل الناس عندها موبايل، وهذا ليس دليلاً مقنعاً.
المشكلة الثانية أنهم لا يفكرون فى حل المشكلات من جذورها، فمثلاً عندما أرادوا جمع المال فكروا فى الضريبة العقارية، دون أن يتحدث أحد عن الثروة العقارية.
■ «يجب حل الأزمة من جذورها» جملة نسمعها كثيرا دون أن يبلغنا أحد ما الذى يمنع الحكومة من حل الأزمات من جذورها؟
- الكل فى الحكومة يعمل بمبدأ لا أحد يتكلم فى أمور جاره، أنت وزير مالية إذن تتكلم فقط فى أمور الضرائب، لا تقل لى حتى أصلح الضرائب لابد من إصلاح الثروة العقارية، فهذا يحتاج لقانون التسجيل وهذا من اختصاص وزير العدل، تريد أن تصلح قانون الإيجارات فيقول لك هذا ليس عندى وكل واحد يقول هذه ليست منطقتى، ولا أتدخل فيها، وهذا نظام تم ترسيخه بعد الثورة، كل وزير لديه اختصاص كما لو كان يتعامل فى إقطاعيته الخاصة، ولا يوجد تنسيق بين الوزارات وبعضها.
■ ولكن هذه مهمة رئيس الوزراء؟
- يفترض أنها مهمته.
■ هل تعتقد أنه بعد ترك الدكتور محمود محيى الدين وزارة الاستثمار إلى البنك الدولى ستتغير سياسة الوزارة بعد كل ما صاحبها من جدل حول الاستثمار الأجنبى فى مصر وبيع الملكية العامة؟
- الاتجاهات الاقتصادية فى مصر أكبر من شخص، فهى جزء من أفكار موجودة عند واضعى السياسة فى مصر، لذا لا أعتقد أن شيئا سيتغير.
■ ننتقل لملف الجهاز المصرفى، ما رأيك فى الأداء العام له؟
- المشاكل التى حدثت فى القطاع المصرفى فى نهاية التسعينيات كانت مزعجة وخطيرة، فقد حصل إفراط غير معقول فى منح التسهيلات والقروض، كانت فترة جنون ترتبت عليها المشاكل التى حدثت بعد ذلك، ولكن أعتقد أن القطاع المصرفى أصبح بعد ذلك أكثر انضباطاً، لكن لايزال هناك خلل كبير فيما يتعلق بهيكل الأجور فى البنوك، وملاحظتى الوحيدة على أداء البنوك المصرية أنها لم تعد تتوسع الآن فى منح القروض نتيجة للخوف مما حدث فى السابق، وغلبت عليها درجة من التشدد.
■ يلاحظ وجود «بنوك سياسية» فى مصر يجامل من خلالها بعض السياسيين بتعيينهم رؤساء لمجلس إداراتها، مثل البنك العربى الأفريقى، فهل تؤثر مثل هذه البنوك على القطاع المصرفى؟
البنك العربى الأفريقى أنشئ فى منتصف السبعينيات، حيث كان الرئيس السادات يريد تشجيع عدد كبير من المصريين فى الخارج وطمأنتهم إلى بنك فى مصر يودعون فيه ودائعهم بالعملات الأجنبية، دون خوف من المصادرة، لهذا أنشئ البنك العربى الإفريقى، وفعلاً نجح البنك فى ذلك الوقت فى جذب كثير من الودائع، لكن هذه مرحلة انتهت وأصبح دور البنك الآن محدوداً جداً، أى لو توقف البنك غداً فلن يشعر بذلك أحد، فهو بنك خاص بين مصر وبعض الدول العربية، وله اتفاقية خاصة تجعله غير خاضع لرقابة البنك المركزى، ويتمتع بمميزات غير عادية، وطول عمر البنك يدفع لرئيسه مبلغاً ضخماً، فهو منصب سياسى، والبنك صغير ولا دور له «وبيركنوا فيه بعض كبار الساسة بعدما يكونون قد خدموا مدة طويلة».
■ شهدت السنوات الخمس الأخيرة توسعاً فى عدد البنوك الجديدة التى افتتحت أفرعاً لها فى مصر، ما دلالة ذلك؟
- لذلك دلالتان: الأولى أن البنوك تأتى للبحث عن المكسب، فعندما تأتى للاستثمار هنا فهذا يعنى أن هناك فرصاً كبيرة للمكسب وهذه دلالة إيجابية، وتعنى أن التربة المصرية تحتاج لخدمات مصرفية أكثر أو لم تكن متوفرة بدرجة كافية، وأن الاقتصاد المصرى قوى، أما ما هو أقل إيجابية أن بنوكنا الوطنية لم يكن عندها الجرأة أو الخيال لاستغلال المناخ الموجود.
■ نشر مؤخراً أن بنك الاستثمار القومى فى سبيله إلى الاختفاء، فطوال الوقت كانت هناك علامات استفهام حوله، وقد زادت أثناء عمليات الخصخصة، فلم يكن واضحاً كيف تدخل وتخرج منه أموال الخصخصة، فما رأيك فيه وفى التلويح بإلغائه؟
- تؤسس الحكومات أشياء لأسباب معينة وعندما ينتفى السبب ينسون هذه الأشياء، بنك الاستثمار القومى عندما أنشئ كان له غرض معقول، فالدولة فى ذلك الوقت كانت مسيطرة على كل الاستثمارات، وعندما أرادت الدولة عمل استثمار فى شركات ما، وجدوا أن الاستثمار لا يتم فى سنة واحدة، وكانت الفكرة آنذاك أن يكون البنك بمثابة الضمان لتوفير التمويل للمشروعات طويلة الأجل، وكان البنك تحت رقابة الجهاز المركزى للمحاسبات، وتطور الأمر ونسى الغرض الرئيسى من البنك وبدأت تودع فيه فلوس المعاشات، وكانت الحكومة عندما «تتزنق» تأخذ منها.
■ وهل من الصواب إيداع أموال المعاشات فى بنك الاستثمار القومى؟
- هذه قضية خطيرة، وقد تابعت الحوار الذى أجريتِه فى هذا الشأن مع الدكتورة ميرفت التلاوى، وتابعت أيضا دفاع أحد رجال وزارة المالية بأن الحكومة ضامنة لأموال المعاشات، المسألة ليست هكذا، الأصل فى المسألة أن أموال المعاشات هى أموال خاصة مملوكة لأصحابها ويجب أن تدار بشكل صحيح ولا تستخدم فى غير ما يفيد أصحاب المعاشات، يجب استثمارها لصالحهم وبدون مخاطرة، هذه فلوس الناس وليست فلوس الدولة، وكانت دائماً مطمعا لكل وزراء المالية قبل يوسف بطرس غالى، وكان الأمر يرفض دائما، لكن يوسف نجح «بشطارته» فى إقناعهم