كان واصل بن عطاء على ما وهبه الله من فطانة وفصاحة وحسن تصرف في القول كان صاحبعاهة في نطق حرف الراء .
وكان واصل يحسن البعد عن هذا العيب المحرج في النطق , فيجانب لفظ الراء إلى سواه من الحروف , فيجعل البر قمحاً , والفراش مضجعاً , والمطر غيثاً , والحفر نبشاً .
وقد سجل لنا العلماء خطبة كاملة لواصل بن عطاء تجنبفيها حرف الراء .
وللخطبة قيمة فنية وتاريخية عظيمة , فهي خطبة مرتجلة أمامالوالي ووفد من العلماء , اقتدر صاحبها على الاستغناء فيها عن حرف من أكثر الحروفدوراناً في الكلام , وعلى الرغم من أنها خطبة ذات طابع ديني , فيها من معاني القرآنالكريم وأساليبه ونصوصة.
غير أن واصل قد تمكن من الفرار في إبداع وخفة منألفاظ معينة إلى مرادفاتها أما قيمتها التاريخية فتنبع من كونها أنموذج من خطب الوعظ الخالصفي القرن الثاني للهجرة, تجنب فيها واصل فتن المذاهب والدعوات المذهبية, وفيها شبهكبير بخطبتي عمر بن عبد العزيز وسليمان بن عبد الملك رضي الله عنهما, وقد اجتمع فيثلاثتها التحذير من مفاتن الدنيا, وتصوير نهاية الأحياء, والتنوية بفضل القرآن, والحث على إتباع آيه وهديه.
نص الخطبة" الحمد لله القديم بلا غاية, والباقي بلانهاية, الذي علا في دنوه, ودنا في علوه فلا يحويه زمان, ولا يحيط به مكان, ولايؤوده حفظ ما خلق, ولم يخلقه على مثال سبق , بل أنشأه ابتداعاً, وعد له اصطناعاً, فأحسن كل شيء خلقه وتمم مشيئته وأوضح حكمته, فدل على ألوهيته, فسبحانه لا معقبلحكمه, ولا دافع لقضائه تواضع كل شيء لعظمته, وذل كل شيء لسلطانه, ووسع كل شيءفضله, لايعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم .
وأشهد أن لا إله إلا وحده لا مثيلله, إلهاً تقدست أسماؤه وعظمت آلاؤه علا عن صفات كل مخلوق, وتنزه عن شبه كل مصنوع, فلا تبلغه الأوهام, ولا تحيط به العقول ولا الأفهام, يُعطي فيحلم, ويدعى فيسمعويقبل التوبة عن عباده, ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون .
وأشهد شهادة حق, وقولصدق, بإخلاص نية, وصدق طوية, أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه, وخاصته وصفيه, ابتعثهإلى خلقه بالبينات والهدى ودين الحق, فبلغ مألكته, ونصح لأمته, وجاهد في سبيله, لاتأخذه في الله لومة لائم, ولا يصده عنه زعم زاعم, ماضياً على سنته موفياً علىقصده, حتى أتاه اليقين.
فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى, وأتم وأنمى, وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه, وخالصة ملائكته, وأضعاف ذلك إنه حميدمجيد.
أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله والعمل بطاعته, والمجانبةلمعصيته, فأحضكم على ما يدنيكم منه, ويزلفكم لديه, فإن تقوى الله أفضل زاد, وأحسنعاقبة في معاد.
ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها, وفوائن لذاتها, وشهواتآمالها, فإنها متاع قليل, ومدة إلى حين, وكل شيء منها يزول, فكم عاينتم منأعاجيبها, وكم نصبت لكم من حبائلها, وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها, أذاقتهمحلواً, ومزجت لهم سماً.
أين الملوك الذين بنوا المدائن, وشيدوا المصانع, وأوثقواالأبواب وكاثفوا الحجاب, وأعدوا الجياد, وملكوا البلاد, واستخدموا التلاد , قبضتهمبمخلبها , وطحنتهم بكلكلها , وعضتهم بأنيابها , وعاضتهم من السعة ضيقا , ومن العزذلاً , ومن الحيلة فناء , فسكنوا اللحود , وأكلهم الدود وأصبحوا لاتعاينُ إلامساكنهم , ولا تجد إلا معالمهم , ولا تحسس منهم أحد ولا تسمع لهم نَبساً .
فتزودوا عافاكم الله فإن أفضل الزاد التقوى, واتقوا الله يا أولى الألبابلغلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه, ويعمل لحظه وسعادته, وممنيستمع القول فيتبع أحسنه, أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
إن أحسنقصص المؤمنين, وأبلغ مواعظ المتقين كتاب الله, الزكية آياته الواضحة بيناته, فإذاتلي عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تهتدون.
أعوذ بالله القوي, من الشيطانالغوي, إن الله هو السميع العليم. بسم الله الفتاح المنان. قل هو الله أحد, اللهالصمد, لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفواً أحد.
نفعنا الله وإياكم بالكتابالحكيم, وبالآيات والوحي المبين, وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم.
وأدخلنا جناتالنعيم.
وأقول ما به أعظكم, وأستعتبُ الله ليولكم
_____________________
المصدر - كتاب نوادر المخطوطات - تحقيق عبد السلام هارون