بسم الله الرحمن الرحيم
خواطر عاشق
كان لي صديق عرفته منذ زمن لم أعرف أن أحداً امتلك قلباً مثل قلبه ولا نفساً مثل نفسه، إلا أن مشاغل الحياة فرقتنا، وذات يوم علمت من بعض اصدقائي أن هذا الصديق قد ألمت به نكبة من نكبات الدهر، وأنه يعاني سكرات الموت، فهرعت لمنزله لعلي أواسيه في مرضه وأشد من عضده، وحين وصلت إلى منزل صديقي وجدت أصدقائه قد تجمعوا عنده، فدخلت إليه فرمقني بنظرة أصابتني برعشة فككت أوصالي جزعاً وخوفاً، فمد يده إلي وقد أمسك بمجموعة من الأوراق، وما لبث أن فارق دنيانا غير آبه لما حوله.
خلوت بنفسي والأوراق فنثرتها فرأيتها مجموعة خواطر عاشق تناول كأس الحب بيده فارتشف منها الرشفة الأولى فوجدها حلوة المذاق، فألصق الكأس بفمه واستمر يشرب ولا يرفعها. ولا يشعر بالمرارة المتجددة في جرعاتها حتى أتى على الجرعة الأخيرة، فإذا هي السم الناقع الذي قتله وذهب بحياته.
قرأت تلك الأوراق فبكيت بكاء رحمت نفسي منها ثم طويتها وألقيتها بين أوراقي وظلت كذلك أعواماً طوال، وبينما أقلب أوراقي ذات ليلة إذ عثرت بها وقد اصفر لونها كما يصفر الكفن حول الجثة البالية، فشعرت برعدة تتمشى في أعضائي، وتخيلت شبح كاتبها في ذلك اليوم.
فعدت إلى نفسي وبدأت أقرأها فإذا هي:
(1)
رأيتها فأحببتها وما كنت أعرف الحب من قبلها كان قلبي في ظلام حالك لا يرى إلا نفسه، فلما أشرق فيه الحب أشرقت فيه شمس ساطعة منيرة لها من الشمس نورها وجمالها.
كنت أشعر أن قلبي قبل اليوم يعيش في صحراء لا يعرف القلوب أو يعرفها وينكرها، فلما أحببت رأيت بجانب قلبي قلباً يؤنسه ووجدت بين جوانحي من اللذة والغبطة ما لو قسم على تلك القلوب ما خالطها حزن ولا مسها ألم.
كنت أسمع بالسعادة ولا أفهم معناها غير أني كنت أسمع إذا ذكرت ذكروا بجانبها القصر والحديقة والذهب والشهرة، فلما أحببت اعتقدت أن لا سعادة في الدنيا غير سعادة الحب، وأدركت أن الناس جميعاً إنما يطلبون سعادة الأجسام لا سعادة النفوس مثلهم مثل الميت المكفن بالحرير.
(2)
أحببتها قبل أن أعرف عنها شيئاً سوى أنها تحبني فكأنني ما منحتها قلبي إلا لأنها منحتني قلبها، وهو ثمن قليل بجانب ما منحتني إياه.
عشت دهراً بين أقوام لا يعنيهم أمري، وذقت من آلام الحياة ما لا يستطيع بشر أن يحتمله، فسمعت من يسألني كيف حالك وآخر من يقول لي ما أشد جزعي لمصابك، ولكن لم أر بجانبي يوماً من الأيام عيناً تدمع ولا قلبا يخفق حباً لي.
أما اليوم فقد وجدت بجانبي القلب الذي يخفق لأجلي والعين التي تبكي في سبيلي.
(3)
جلست إليها للمرة الأولى فحدثتني نفسي أن أمد يدي إلى يدها فأضعها على صدري لأطفأ بها غلتي، فما لمستها حتى نظرت إلي نظرة العاتب وقالت: كن رجلاً في حبك واترك الطفولة لغيرك.
إن كنت تحبني لنفسي فها أنت قد ملكتها عليا، وأحرزتها من دوني، وإن كنت تحبني لهذه الصورة الجسمانية فما أضعف همتك وما أصغر نفسك.
أتذرف دمعك وتسهر ليلك من أجل عظمة تلمسها أو جلدة تلثمها.
(4)
أنت شريف في نفسك فكن شريفاً في حبك، واعلم أني ما أحببت غير نفسك فلا تحب غير نفسي.
ما أن وقفت في حديثها حتى شعرت أني قد صغرت في عين نفسي وتمنيت لو عجل أجلي قبل أن يمر هذا الخاطر في نفسي، فنظرت إلي نظرة عرفت أنها تقولي لي: لا عليك، ولا تلم نفسك، فسكن روعي وشعرت أن نفسي مرآة قد صقلها الحب من الصدأ.
كنت أحمل البغض لأعدائي فأصبحت أشعر بالرضا على الناس جميعاً، لأن الحب قد ملك عليا قلبي فلم يترك فيه مجالاً لشيء سواه.
كان صدري ضيقاً سريع الغضب وكنت شديد القسوة، متحجر القلب لا أعطف على بائس ولا أحنو على ضعيف، جملة القول كنت وحشاً ضارياً فصرت بين يدي الحب الشريف إنساناً شريفاً وملكاً كريماً.
(5)
ذات ليلة خرجت بها إلى ضفة نهر وكان الماء رائقاً والسماء صافية، وفي كل منهما نجوم وكواكب، تتلألأ في صفحته فاختلط علينا الأمر حتى ما عدنا نفرق بين الأصل والمرآة.
مشينا طويلاً والصمت يلفنا كأن سكون الليل قد سرى إلى أفئدتنا، وملأ مابين جوانحنا فأمسكنا عن الحديث هيبة وإجلالاً.
كنت أشعر في تلك الساعة بخفة في جسمي وصفاء في نفسي، فالتفت إليها وسألتها: أهل تشعرين بالسعادة التي أشعر بها؟
قالت: لا؛ لأني أعرف من شئون الأيام وأحوالها غير ما تعرف، وانظر إلى الدنيا بغير العين التي تنظر بها إليها... أنت سعيد بالأمل وانا شقية بالحقيقة الواقعة!
أنت سعيد لأنك تظن أن سعادتك دائمة لا انقطاع لها، وأنا شقية لأني أتوقع في كل لحظة زوالها وفناءها... إن كنت تستطيع أن توقف الشمس في كبد السماء وأن تحول بين الأرض ودورانها فاضمن لنفسك استمرار السعادة وبقائها.
وحين توقفت عن الكلام أطرقت برأسها طويلاً فرأيت مدامعها تنحدر من خديها بيضاء صافية كاللؤلؤ المكنون فبكيت لبكائها، وقلت: لم تبكين، قالت: خوف الفراق، قلت: فراق الحياة أو فراق الموت. قالت: أما فراق الحياة فإني لا أخافه، لأنه لا توجد قوة في العالم تحول بيني وبينك، إنما أخاف فراق الموت لأنه الفراق الذي لا حيلة لي فيه.
قلت: نتعاهد على أن نعيش معاً أو نموت معاً، قالت: ذلك ما يهون عليا ألمي، فتعاهدنا ثم رجعنا أدراجنا، والليل يشمر أذياله، للفرار من النهار، وافترقنا على ميعاد.
وفي اليوم التالي ذهبت لميعادنا، فلم تأتي شمس حياتي فترصدت أخبارها حتى علمت أنها قد انتقلت إلى جوار ربها.
(6)
ألا يستطيع هذا الدهر أن ينام ساعة واحدة عن هذا الإنسان، إن الإنسان قد لا يعجز عن احتمال الشقاء، ولكنه يعجز عن احتمال السعادة المتقطعة.
يقولون إن الأمل حياة الإنسان، وأنا أقول: ما قتل الإنسان ومزق شمل حياته إلا الأمل.
ليتني ما سعدت لأني ما شقيت إلا بسعادتي، وليتني ما أملت لأن اليأس القاتل ما جاءني إلا من طريق الأمل الباطل.
ماتت الفتاة التي كانت شمس حياتي، وأشعة آمالي، وينبوع سعادتي وهناءتي.
ماتت الفتاة التي كانت ملء الدنيا جمالاً وبهاءاً، فمات بموتها كل حي في هذا الوجود.
أرى الأرض غير الأرض والسماء غير السماء، وأرى الطيور صامتة لا تغرد، والغصون ساكنة لا تتحرك، وأرى النجوم آفلةٌ، والأزهار ذابلة، والطبيعة واجمة حزينة لا يفتر ثغرها ولا يتلألأ جمالها.
************
أيها الدهر الغادر إن غلبتني عليها فإنك لن تستطيع أن تغلبني عن نفسي لك أن تُخرج من الدنيا من تشاء، ولكن ليس لك أن ترد إليها من تُخرج منها.
يا أيتها النفس الهائمة في سمائها لا تجزعي ولا تعجلي، فوالله لأفين بعهدك عما قليل، ليكونن عهدنا في مستقبلنا كعهدنا في ماضينا، فما تعارفنا في العالم الأول إلا بأرواحنا، فلنكن كذلك في الثاني.
مع أرق وأجمل تحياتي
خالد_قناف
صنعاء