لقد دأبت عندما أناقش وأتحاور مع أصدقائي، فنخوض في أسباب الضعف والوهن والتخلف الذي نعيشه، أحاول أن أفهمهم دائما، أن أول خطوة للتصحيح هي الاعتراف بالعفن والفساد والأخطاء، ووجوب نشر غسيلنا الوسخ تحت الشمس والهواء الطلق حتى نسلط عليه الشمس فتنظفه مما ران عليه من أدران وأوساخ واوشاب وجهل. ولكنهم يغلون ويزبدون وتحمر عيونهن ويتطاير منها الشرر، ويتهمونني بأنني إنسان ليس لدي شعور بالانتماء وأنني أتعمد الإساءة للعرب وأحيانا يشككون في إسلامي.
لقد عرفنا كعرب أن الغالبية العظمى منا عبارة عن قطيع من المتخلفين اتقنا فن المكابرة والعزف على وتر نبوغ الأجداد، والويل والثبور وعظائم الأمور للأمم الأخرى بأنهم الذين سيبكون كثيرا أخيرا لأننا خير امة أخرجت للناس، وهناك من شيوخنا من يلمح إلى أن الله سخرهم لنا كي يعملوا ويبتكروا ويصنعوا من اجلنا... نفس عقلية الرقيق والاستعباد التي كانت سائدة قديما. وهم لا يدرون أن الإكثار من الانبطاح والجعجعة الفارغة من غير طحين والاعتماد علي الغير، سيجعل هؤلاء الغير في نهاية المطاف يستغلوننا وينيكوننا ويستحيون نسائنا يقتلون أولادنا ويحتلون أراضينا بعد أن يبثوا فينا سياسة فرق تسد ويجعلوننا عبارة عن جزر متفرقة من كثرة الدسائس التي تؤدي إلى الخلافات وبذلك نكون لقمة سائغة يسهل بلعها.
وأقول لهم أن أول خطوة هي التمتع بحكم شفاف ونزيه يقوم على التداول السلمي للسلطة لنقطع دابر الفساد، وان لا نظل نرزح تحت حكم الطغاة والديكتاتوريين والوارثين المصابين بمرض إلصاق المؤخرة على كرسي الحكم حتى الموت.
وقد ضحكت اليوم عندما سمعت خبر عودة الابن المخلوع ومحاولته تولي حكم إمارة راس الخيمة بعد أن توفي والده صقر القاسمي أول أمس… والابن يحاول الآن حسب الأخبار المطالبة بالحكم بدلا من أخيه غير الشقيق الذي ولاه أبوه قبل موته على ما يبدو… بالله عليكم إلى متى تظل دولنا تعيش في مثل هذه المهازل التي تفضحنا أمام العالم؟ كأن الإمارة التي تتنازع عليها هذه الأسرة هي ضيعة وملكية خاصة للأسرة الحاكمة فقط وقس على ذلك دول بأكملها‼! وانه ليس من حق أفراد الشعب الآخرين حكمها.
يا امة ضحكت من جهلها الأمم...
نحن أيضا بحاجة لبيروستريكا
حين لا يعترف المريض بمرضه فكيف ستعالجه وتأخذه الى الطبيب أصلا!؟ .. كيف ستقنعه بتناول الدواء أو الخضوع لعملية جراحية قبل أن تقنعه بأنه مريض فعلا!؟
... حسنا.. وماذا لو كان هذا المريض أمة أو مجتمعا تنخر السوسة في عظامه ومع هذا يتشمت على مجتمعات أكثر منه تقدما تستهلك ما تصنع وتأكل مما تزرع وتلبس مما تنسج؟!
ماذا لو كان المريض شعبا كسولا أو مغرورا يتجاهل أخطاءه، ويرفض الاعتراف بمشاكله ويتهم كل من يخالفه بموالاة "الغرب" ودول الكفر والضلال؟
.. ماذا لو كان يكابر ويعتقد أنه شعب الله المختار أو خير أمة أخرجت للناس ويتجاهل أن "كنتم" فعل ماض ومندثر ويتقدم على "خير أمة" في الحاضر والمستقبل ...
ألا يصبح في هذه الحالة مثل المريض الذي يحتضر بالتدريج دون أن يعترف بمرضه وضرورة خضوعه للعلاج!؟ .. ألا يصبح ميئوسا من شفائه لأنه يرفض أصلا فكرة "الفحص" و"التحليل" وفتح قلبه لسماعة الطبيب!؟
... وفي المقابل قارن ذلك بأمم متقدمة أصلا ومع هذا لا تتحرج من نشر غسيلها القذر بشكل دوري ومناخ ديمقراطي وجوّ من الشفافية وحرية التعبير .. أليس مجرد اعترافها بوجود "المشكلة" أول خطوة باتجاه تصحيحها والشفاء منها وعدم تكرارها مستقبلا؟
كم مرة قرأت عن أرقام مخجلة وظواهر مقلقة ومشاكل اجتماعية خطيرة تحدث في المجتمعات الغربية وكم مرة مررت عليها متشمتا ولسان حالك يقول "الله لا يغير علينا ، هذا في بلاد الخواجات" ...
ولكن الحقيقة هي أن كل تقرير مخجل من هذا النوع تعقبه موجة تصحيح تنتهي باستئصال المشكلة أو على الأقل الحد من تفاقمها .. فحين تتحدث أمريكا مثلا عن انخفاض مستوى التعليم فيها ، أو تعترف كندا بوجود فساد مالي في حكومة كيوبيك، أو تتحدث شرطة فرنسا عن ارتفاع مستوى التحيز ضد المهاجرين؛ فهذا وحده بمثابة اعتراف بمشكلة يعقبها حل مناسب وأكيد (وإلا لماذا الاعتراف بها أصلا)!!
أما حين تخدع الشعوب نفسها وترفض الاعتراف بمشاكلها الخاصة من فساد وبطالة وفقر وخلل في الفكر والممارسة فهذا بمثابة قنبلة موقوتة ونهاية محتومة وحالة انكار تشبه رفض المريض الاعتراف بالمرض (ناهيك عن قبوله أصلا بأي علاج) !!
ففي الاتحاد السوفياتى القديم مثلا كان من المستحيل الاستمرار أكثر تحت النظام الماركسي المغلق ولم تبدأ روسيا باتخاذ طريقها الصحيح والطبيعي إلا بعد الاعتراف بهذه المشكلة واعتماد غورباتشوف سياسة المكاشفة وإعادة البناء (البيروستريكا) .. وفي أمريكا سبق أن تعرضت الى احصائيات "مخيفة" تثبت تدهور مستوى التعليم هناك . ورغم ان الوضع بدا من الظاهر (سيئا جدا) إلا ان مجرد الاعتراف به يعني اتجاهه نحو التحسن وذكرت حينها ان الاوضاع التعليمية هناك تفوق بمراحل ما هو موجود فى الدول العربية وكل مافى الامر ان الامريكان (طماعين شوي) ويقلقهم التقدم المطرد لمستوى التعليم فى النمور الآسيوية سنغافورة وكوريا وتايوان!!
باختصار شديد :
نحن أيضا بحاجة للاعتراف بمشاكلنا الخاصة بشكل دوري ومستمر دون خوف أو تحرج ..
نحتاج إلى سياسة مكاشفة دورية وإعادة بناء ذهنية تشبه ماحدث في روسيا أيام غورباتشوف ..
نحتاج لشجاعة الاعتراف بأخطاء الماضي والحاضر (دون محاسبة أو تقريع) منعاً لتكريسها في الحاضر وتكرارها في المستقبل ..
نحتاج لقفل أفواه المتملقين بصلاح الأحوال ودعاة الخيرية ومنح الفرصة لمن يغنينا عن استيراد غذائنا وثيابنا من الخارج !!
... نحتاج أولا وقبل التفكير بأخذ العلاج إلى الاعتراف بأننا نعاني من مرض حقيقي يدعى التشدق بالماضي، والغرور بالحاضر، والشهادة يوم الحساب على أمم أفضل منا بمراحل...