رغم أن الوثائق السرية التي نشرها موقع "ويكيليكس" في 22 أكتوبر لم تتضمن
جديدا حول بشاعة ما يحدث في العراق ، إلا أن هذا لا يقلل من أهميتها فهي
بمثابة أدلة موثقة ورسمية على جرائم الاحتلال وأعوانه في بلاد الرافدين .
بل ويبدو أنها جاءت أيضا في توقيت هام جدا لتسليط الضوء على ممارسات بعض
حكام العراق الجدد وخاصة رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي الذي
يسعى بقوة للاستمرار في منصبه .
صحيح أن المالكي طالما نفى في السابق صحة اتهامات وجهت له بالتورط في العنف
الطائفي ، إلا أن وثائق "ويكيليكس" قدمت أدلة ملموسة على ما أسمته "
شخصيته الطائفية ".
فالوثائق المسربة من قبل المؤسسة العسكرية الأمريكية والتي يبلغ عددها 400
ألف وثيقة أظهرت المالكي بأنه شخص طائفي منحاز بقوة إلى طائفته الشيعية على
حساب مواطنيه السنة ، ولم يقف الأمر عند ما سبق ، بل إن وثائق ويكيليكس
أشارت أيضا إلى تورط رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته في إدارة فرق
للقتل والتعذيب وخاصة ضد السنة .
ولعل الأرقام التي نشرتها الوثائق حول التطهير الطائفي الذي حدث في العراق
بعد تولي المالكي رئاسة الحكومة مباشرة تلقي أيضا الضوء على ما أطلق عليه
"مخطط المالكي ضد السنة ".
فوفقا للوثائق ، فإن "التطهير الطائفي المنظم " هو الذي أوصل عمليات القتل
بالعراق إلى درجة "مسعورة" وبات ديسمبر/كانون الأول 2006 أسوأ شهر يشهده
العراق حيث قتل نحو 3800 مدني أغلبهم من السنة ، بل إن المالكي أمر أيضا في
2009 باعتقال 5 من كبار ضباط الشرطة من السنة .
وبالإضافة إلى ما سبق ، فإن الوثائق أظهرت أيضا قيام الجيش الأمريكي
بـ"التستر على أعمال التعذيب" التي تعرض لها سجناء عراقيون أغلبهم من السنة
على أيدي قوات الشرطة والجيش العراقيين ، قائلة :" إن الولايات المتحدة
كانت على علم بأعمال التعذيب هذه لكنها أمرت جنودها بعدم التدخل ، المالكي
استعمل قوات خاصة لكي تقوم بعمليات الاعتقال بأمر مباشر منه".
وكشفت الوثائق في هذا الصدد أن 180 ألف شخص سجنوا لأسباب تتعلق بالحرب على
العراق أغلبهم من المناطق السنية ، كما أظهرت الوثائق التي تغطي الفترة بين
الأول من يناير/كانون الثاني 2004 حتى ديسمبر/كانون الأول 2009 تورط
القوات العراقية بعمليات التعذيب الممنهج للسجناء باستخدام وسائل تعذيب
عديدة بينها الكهرباء والانتهاك الجنسي كما ثبت أن عددا من أفراد الشرطة
العراقية من السنة جرى قتلهم على أيدي تلك القوات .
ومن أبرز جرائم التعذيب التي أبرزتها الوثائق في هذا الصدد هي واقعة تعرض
أحد المعتقلين من السنة للتعذيب بالضرب والكهرباء وادعاء من قاموا بتعذيبه
فيما بعد أنه وقع من دراجة نارية ، هذا بالإضافة إلى وثيقة حول مقتل عراقي
جراء التعذيب ظهرت صور معاناته على الإنترنت ومع ذلك فإن واشنطن لم تحرك
ساكنا .
تصريحات رامسفيلد ولعل ما يثير السخرية والاستفزاز في آن واحد أن وزير الدفاع الأمريكي
السابق دونالد رامسفيلد وقف يوما في مؤتمر صحفي ليتفاخر بأن القوات
الأمريكية عندما ترى واقعة تعذيب على أيدي القوات العراقية تقوم بالإبلاغ
عنها فقط دون أن تتدخل مع أن الاحتلال هو المسئول الأول والأخير في هذا
الصدد ، بل إن رامسفيلد لم يتوان عن إحراج أحد القادة العسكريين الأمريكيين
في المؤتمر الصحفي ذاته عندما أشار إلى ضرورة تدخل الجنود الأمريكيين
لإيقاف عمليات التعذيب والانتهاكات الجسيمة التي كانت تحدث في مراكز قوات
الشرطة والجيش العراقيين ورد عليه رامسفيلد بضرورة الاكتفاء بالإبلاغ عن
الواقعة فقط .
وبجانب الأدلة على تورط المالكي في العنف الطائفي ضد السنة ، فإن الوثائق
الأمريكية المسربة والتي نشرتها أيضا قناة "الجزيرة" وصحيفة "نيويورك
تايمز" الأمريكية و"الجارديان" والقناة الرابعة البريطانيتين ومجلة "دير
شبيجل" الألمانية ركزت على إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل في حرب العراق
ألا وهي أعداد القتلى من المدنيين العراقيين والمسئول عن قتلهم وهو ما يكشف
بوضوح أبعاد مؤامرة واشنطن وأعوانها في بلاد الرافدين .
فأغلب القتلى المدنيين سقطوا بأيد غير عراقية ، وكشفت الوثائق في هذا الصدد
عن جرائم قتل كثيرة لم يتم الإعلان عنها وهي عن جنود أمريكيين أقدموا من
على متن مروحيات على قتل مدنيين عراقيين عند نقاط التفتيش ، قائلة :" مئات
المدنيين قتلوا على الحواجز الأمريكية في العراق بالرغم من أن التصريحات
الرسمية الأمريكية تنفي ذلك ، عدد القتلى المدنيين في العراق أكثر بكثير
مما هو معلن" .
وأشارت الوثائق المسربة أيضا إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"
كانت طيلة الوقت تخفي الأرقام الفعلية لعدد الضحايا المدنيين من الشعب
العراقي ، قائلة :" ظل المدنيون بينهم النساء الحوامل والعجائز والأطفال
وحتى المرضى النفسيون يقتلون طيلة سنوات الحرب على نقاط التفتيش العسكرية
وبنيران الطائرات الأمريكية المقاتلة ، القوات الأمريكية كانت تحتفظ بتوثيق
للقتلى والجرحى العراقيين رغم إنكارها علنيا لكل ذلك ، هناك 285 ألف ضحية
عموما في هذا الصدد ".
جرائم بلاك ووتر واللافت للانتباه أن الأمر لم يقتصر على قتل المدنيين بعشوائية على الحواجز
الأمريكية ، بل إن "ويكيليكس" سلط الضوء أيضا على ضحايا الشركة الأمنية
الأمريكية الخاصة "بلاك ووتر" من المدنيين ، مشيرة إلى أن هناك 14 حادثة
فتح فيها عناصر "بلاك ووتر" النار بعشوائية على المدنيين ولم يتم الإعلان
عنها أو التحقيق فيها .
كما تطرقت الوثائق إلى الدور الإيراني في العراق ، مشيرة إلى أن إيران كانت
حاضرة في المشهد العراقي ولكن على نحو سري عبر تهريب السلاح التقليدي
للأحزاب والمنظمات الشيعية الموالية لها وخصوصا جيش المهدي التابع لمقتدى
الصدر ومنظمة بدر التي كانت الجناح العسكري للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي
بقيادة عائلة الحكيم قبل أن تتحول إلى تنظيم سياسي .
وتابعت الوثائق في هذا الصدد أن ضباط مخابرات إيرانيين كانوا يعملون بشكل
يومي في العراق وأن بعضهم متورط في شن هجمات بالصواريخ على المنطقة الخضراء
وبعضهم الآخر متورط في تفجيرات ضد مدنيين بل وتم الكشف أيضا عن سيارة كانت
قادمة من إيران وتستهدف اغتيال إياد علاوي ، علاوة على إقامة نقاط تفتيش
مشتركة في المناطق الشيعية يشرف عليها عناصر أمن إيرانيون بوجود عناصر من
جيش المهدي ومنظمة بدر.
ورغم أن الوثائق أشارت إلى احتمال تورط إيران في العنف الطائفي بالعراق ،
إلا أنها أبرزت أيضا أن إيران كانت مهتمة أكثر بتسليح الميليشيات الشيعية
لشن هجمات على الاحتلال وخاصة في المنطقة الخضراء المحصنة بدباباته
وطائراته للإسراع بطرده من بلاد الرافدين .
بل وهناك من أشار إلى أن تورط إيران في العنف الطائفي لايخدم مشروعها في
العراق بل إنه يزيد من أمد بقاء الاحتلال الأمريكي بحجة وقف العنف ، هذا
فيما ذهبت وجهة نظر أخرى إلى أن إيران ركزت على تسليح الشيعة أكثر من
اهتمامها بقتل السنة وأن هناك من أعوانها من لم يلتزم بمشروعها تماما
وتعاون أيضا مع الاحتلال وأجج العنف الطائفي .
وحتى إذا سلم البعض بتورط إيران في العنف الطائفي وإيران كما هو معلن عدو
لأمريكا ، فلماذا لم تكشف واشنطن المعلومات السابقة التي نشرها "ويكيليكس"
في حينها وهو الأمر الذي يثير الكثير من علامات الاستفهام حول ما إذا كان
يوجد تحالف أمريكي إيراني في العراق أو أن واشنطن تريد تحميل مسئولية
جرائمها لأطراف أخرى خاصة وأن مؤسس "ويكيليكس" جوليان أسانج اعترف في مؤتمر
صحفي عقده في لندن في 23 أكتوبر بأنه امتنع عن نشر بعض الوثائق بسبب
احتوائها على معلومات حساسة قد تعرض القوات الأمريكية في العراق للخطر وهو
الأمر الذي يؤكد أن هناك ما هو أخطر بكثير مما تم نشره حول جرائم الاحتلال
الأمريكي بالعراق وأن أسانج رضخ لتهديدات البنتاجون في هذا الصدد.
وبالنسبة لما تضمنته الوثائق من اتهامات للمالكي ، فهناك من يرى أنها ليست
جديدة وأنها لن تؤثر على حظوظه في البقاء بالسلطة بل إنها قد تفيده لأنها
ستدعم مكانته بين طائفته ومناصريه ، هذا فيما ذهب البعض الآخر إلى القول إن
واشنطن قد تكون عقدت صفقة سرية مع "ويكيليكس" تتراجع بموجبها عن الضغوط
عليه لمنع نشر الوثائق حول حرب العراق مقابل قيامه بحجب الوثائق التي تفضح
أبعاد المؤامرة الأمريكية بالكامل في بلاد الرافدين والتركيز فقط على ما
يدين المالكي وإيران أي أنها اختارت التضحية بالمالكي في الوقت الذي كاد
يقترب فيه من رئاسة الحكومة العراقية مجددا .
أين أوكامبو؟ وأيا كانت صحة التفسيرات السابقة ، فإن الأمر الذي لاجدال فيه أن هناك أدلة
موثقة ومسربة من الاحتلال الأمريكي نفسه حول جرائم حرب ارتكبت بالعراق
وهو ما دفع كثيرين للتساؤل " أين المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية
لويس أوكامبو أم أنه لا يرى سوى الرئيس السوداني عمر البشير فقط ؟ .
فهو أصدر مذكرتي اعتقال بحق البشير بناء على اتهامات لم يثبت صحتها حتى
الآن ، أما عند الأدلة الموثقة التي نشرها "ويكيليكس" حول حربي العراق
وأفغانستان وقبلها تقرير جولدستون حول الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة
وتقرير مجلس حقوق الإنسان حول مجزرة أسطول الحرية فقد التزم الصمت تماما .
ولعل ما يحرج أوكامبو أكثر وأكثر في هذا الصدد أن الأمم المتحدة ومنظمة
العفو الدولية سارعتا لدعوة الإدارة الأمريكية للتحقيق في التقارير التي
نشرها موقع "ويكيليكس" بشأن الحرب في العراق والتي شملت 400 ألف وثيقة سرية
تشير إلى تجاهل القوات الأمريكية لتعرض معتقلين عراقيين للتعذيب ومقتل عدد
كبير من المدنيين.
وقال المقرر الخاص حول التعذيب في الأمم المتحدة مانفريد موفاك في مقابلة
مع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إنه إذا ثبتت صحة الوثائق المسربة
فستعتبر انتهاكا واضحا لمعاهدة جنيف ضد التعذيب.
وأضاف موفاك في هذا الصدد " المعاهدة تنص على اعتبار الدول مجبرة على تجريم
أي نوع من التعذيب مباشرا كان أو غير مباشر وبالطبع التحقيق في أي قضية
وجلب المرتكبين أمام العدالة وتوفير العلاج للضحايا" .
ومن جهتها ، حثت منظمة العفو الدولية الإدارة الأمريكية على فتح تحقيق حول
مدى معرفة المسئولين الأمريكيين بتعرض المعتقلين العراقيين للتعذيب ، وقال
مدير المنظمة لشئون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مالكوم سمارت في بيان له :"
إن الوثائق المسربة تزيد قلقنا من أن السلطات الأمريكية ارتكبت انتهاكا
خطيرا للقانون الدولي حين سلمت الآلاف من المعتقلين إلى قوات الأمن
العراقية على الرغم من علمها بأنها تخضعهم للتعذيب".
وشدد على أنه يتعين على الحكومة الأمريكية الحرص ليس فقط على ألا تخضع
قواتها المعتقلين إلى التعذيب بل ألا تسلمهم إلى سلطات يرجح أن تقوم
بتعذيبهم ، قائلا :" الحكومة الأمريكية فشلت في ضمان ذلك في العراق على
الرغم من المعلومات بشأن ارتكاب القوات العراقية التعذيب بدون محاسبة".
ورغم أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد يتذرع بأن الجرائم السابقة ارتكبت
في عهد سلفه جورج بوش ، إلا أن الحقيقة أن الضغوط التي مارسها على
"ويكيليكس" لمنع كشف المستور حول حربي العراق وأفغانستان بحجة الحفاظ على
سلامة جنوده لا تعفيه من المسئولية في هذا الصدد بل إنه يعتبر أيضا شريكا
في تلك الجرائم لأن التستر عليها لا يختلف عن الشخص الذي ارتكبها .
والخلاصة أن الحقيقة لابد أن تظهر يوما ، فقد تردد أن مصدر الوثائق التي
نشرها ويكيليكس هو برادلي مانينج المحلل في شئون الاستخبارات العسكرية
بالبنتاجون والذي اعتقل في أيار/مايو الماضي بعد نشر ويكيليكس تسجيلا مصورا
عن هجوم شنته مروحية عسكرية أمريكية من طراز "أباتشي" وأدى إلى مقتل
مدنيين عراقيين .
أيضا ، فإنه رغم أن موقع ويكيليكس الذي تأسس في 2006 سبق ونشر العديد من
الوثائق السرية حول الحرب في أفغانستان وواجه حينها تحذيرات وتهديدات لا
حصر لها من البنتاجون بل واتهم مؤسسه أسانج بفضيحة تحرش جنسي إلا أن هذا لم
يمنعه من الإصرار على نشر المزيد من الوثائق السرية حول حرب العراق .
بعض الصور والوثائق التي نشرها ويكيليكس