محمد بروحو في غيهب الليل ، بين ثلم الأحجار الثابتة في هذا المكان منذ زمن..
جلس يتأمل ضوء القمر المنعكس على برك غر ماؤها ، بين أحجار كبيرة وصغيرة . يخاطب البحر بكلمات نبراتها تشبه صوت الماء المنحدر بين الشقوق . تجيبه أمواج تلاطم الأحجار .. عند اندفاع الماء مدا ثم جزرا .. رسمت وجها تفحصه ليجد وجها يشبهه .. خاطب نفسه بكلمات مبغومة ، كما يخاطب البحر المكان بهديره ..نحت له صورة .. فسأل سكون الليل ، متى كان البحر وفيا ، حتى يرسم وجها يشبهه..؟
في لحظة يحاول أن يستجمع أفكاره ، كما تستجمع السحابة قطرات الماء المتناثرة عبر الفضاء .. ثم يتصيد الكلمات، كما تتصيد أنواع الأسماك المغرمة بشقوق الأحجار والكهوف غذاءها .. رشات الماء التي تبلله حين تلاطم وجه الأحجار تلامس وجهه ماء ، بينما يلامس الزبد رجله التي تدلت في جوفها ، تساكن الأعشاب التي نمت على جنباتها..
في غربة هذا الليل وسكونه المتلاشي بهدير الموج استقبل البحر، رمى بناظره في اتجاه ضوء القمر المطل من وراء التلال الصامدة هنا عبر السنين .. تتشتت الأمواج على صلابتها .. كما تتشتت أفكاره أمام صلابة الأيام المزدحمة بالتناقضات منذ سنين.. يتمزق ضوء القمر على الماء، كما تتمزق الكلمات في فمه المبلل .. يمر وقته كمرور ضوء القمر بين السحاب ونتوءات المكان . حين تزاحمه الأمواج على الشقوق والثقوب .. الموشومة على وجه الصخور . ينبت الضوء فوقها كما ينبت البريق في عينيه .. باتجاه القمر الذي توسط السماء منذ قليل.
الأسماك هي الأخرى ، تحب هذه اللحظة ، تموقعت تحت الماء ، تتبع ضوء القمر المسلط على الأمواج المتدافعة . يتبدد ضوؤه فيصعب عليه النفاذ أكثر الى عمق البحر .. يتموقع السمك قريبا من سطح الماء ، حتى يتمتع بضوء القمر العارض نوره على الأمواج والبرك والصخور .. يتراقص داخلها حين يتحرك الماء صاعدا ثم نازلا يغازل الثقوب والشقوق .. مع هدير البحر ، وسطوع القمر ، بين نتوءات صخور تآكلت جنباتها ، وجد نفسه جزءا من مشهد يكمل لوحة طبيعية حية .. يستجمع الكلمات .. لكنها بهدير البحر وتلاطم أمواجه ، تتلاشى في زبد البحر.. يظل يصارع كلماته ، كما تصارع الأحجار عناد الموج.
تهاجم رائحة البحر خياشيمه.. يتركها تقوم بتنظيف أنفه الذي طالما شم عفونة الزمان ونتانة الأيام .. يشرد بذهنه في لحظة ، كما يشرد الحوت عن مكانه حينما تحجب السحابة ضوء القمر .. ينقبض السكون في وهلة يذوب فيها الضياء بالسحب المتدافعة .. تترامى الأمواج ، دون أن يعرف موضعها.
يتحسس المكان . يتتبع هديرها بسمعه ، استخال سحابة . يخلخل هدير البحر سكون الليل الذي يرتبط بسكون نفسه .. شيء يتحرك على ايقاع اندفاع الموج يظهر ثم يختفي ، طالعه ، اقترب الجسم العائم نحوه .. كاد أن يراه ، سحابة حجبت ضوء القمر المسلط عليه.. لم يستطع رؤيته ، لكنه سمع صوتا فيه نبرات توسل وحنان..
لم يفهم معنى الكلمات لقد تلاشت بسرعة ، كما تلاشت كلماته قبل قليل لكن هذه النبرات المؤثرة وشمت في نفسه ، حتى عاد يقلدها بصوته ، فيسمع صداها.
قد تكون عروس البحر ، جاءت لتسمع كلماتها في نفس المكان الذي جاء اليه هو ليسمع كلماته .. لكنها كانت تتلاشى كما تلاشى منظر الجسم العائم.
لم يبق سوى صدى أنين قلده .. وفجأة ، أطلق صيحة لها أنين، يشبه أنين الجسم العائم ، الذي سماه : عروس البحر