شم النسيم..عيد الربيع من مصر الفرعونية
يعد الاحتفال بشم النسيم تعبيرا حيا عن جوهر الحياة المصرية القديمة وعاداتها وتقاليدها وتراثا قوميا، يشارك فيه المصريون جميعا، فلم يكن شم النسيم فى مصر القديمة مجرد عيد للربيع يقتصر الاحتفال به على يوم واحد فقط مثلما هو الحال فى عصرنا الحالى، إنما كان يمثل مجموعة من الأعياد الدينية ومظاهر الاحتفالات الشعبية، التى كانت تقام طوال شهور فصل الصيف احتفالا ببدء موسم الحصاد، كما كان رمزا للبعث وإعادة تجديد الحياة فى مصر كلها.
فلقد قسم المصريون السنة المصرية القديمة إلى ثلاثة فصول يحتوى كل فصل منها على أربعة أشهر، وجعلوا لكل شهر ثلاثين يوما مقسمة على ثلاثة أسابيع يحتوى كل منها على عشرة أيام، وذلك إضافة إلى خمسة أيام فى آخر العام خصصوها لأعياد ميلاد الآلهة، وأشار المصريون القدماء إلى الفصل الأول بكلمة «آخت» والتى تعنى الفيضان، وكان هذا الفصل يمتد من منتصف شهر يوليو إلى منتصف شهر نوفمبر فى تقويمنا الحديث، حيث تبدأ مياه النهر خلاله فى الارتفاع التدريجى لتغمر أرض الوادى فتكاد تصبح قراه ومدنه وكأنها جزر منعزلة يتنقل الناس فيما بينها بالمراكب والزوارق.
وأطلقوا على الفصل الثانى كلمة «برت» بمعنى الإنبات، والذى كان يمتد من منتصف شهر نوفمبر إلى أواخر شهر مارس، وهو يعتبر الفصل الذى تبدأ فيه مياه الفيضان فى الانحسار عن الأراضى الزراعية، حيث تترك خلفها طبقة سميكة من الطمى الأسود الخصب الذى أطلق عليه المصرى القديم كلمة «دميرة»، وكانت هذه الفترة تتطلب مجهودا شاقا بعد الفيضان، حيث يقوم الفلاحون خلالها بحرث الأرض وتقليبها ثم بذر الحبوب وتهيئة الحقول للزراعة.
أما الفصل الثالث فقد أطلقوا عليه كلمة «شمو» بمعنى التحاريق إشارة إلى نضج المحاصيل والثمار إيذانا ببدء موسم الحصاد، وكان هذا الفصل يمتد من أواخر شهر مارس إلى النصف الأول من شهر يوليو، وخلال هذه المرحلة كان النهر يصل إلى أدنى درجات الانخفاض، وتتوالى درجات الحرارة فى الارتفاع التدريجى تمهيدا لفصل الصيف.
وربط المصريون القدماء بين تلك الفصول الثلاثة وأساطير الآلهة المصرية، خاصة أسطورة إيزيس وأوزوريس، التى كانت أكبر ملحمة شعبية تؤكد على دوام الحياة وتجددها وانتصار الخير على الشر، لقد كان أوزوريس ملكا على البشر يحكم بين الناس بالعدل ويرشدهم إلى سبل الحياة الكريمة فحقد عليه أخوه الشرير «ست» ثم قتله واغتصب عرشه، وظلت إيزيس وفية لزوجها بعد موته، فقامت على رعاية وحيدها حورس حتى تمكن من استعادة عرش أبيه المغتصب، ثم أمرت الآلهة أن يكون أوزوريس ملكا حيا فى عالم الأموات ليمنح الحياة للكون ويدفع ماء الفيضان فى موعده كى يهب الخصب إلى التربة وينمى الحب فيها، واعتبر المصريون أن مياه النهر فى فصل الفيضان «آخت» كانت تمثل دموع إيزيس الوفية على زوجها أوزيريس وسر الحياة الكامن فى جسد أوزوريس الذى يهب الأرض الخصب، وربط المصريون بين موسم الإنبات «برت» وبين الإله أوزوريس فاعتبروا أن عملية بذر الحبوب ودفنها فى التربة كانت تمثل دفنا رمزيا لجسده فيحتفل المصريون خلال هذا الفصل بالطقوس الجنائزية لتحنيط هذا الإله ودفنه، ويخيم السكون والحزن على الكون انتظارا لبعثه من رقاده مرة أخرى، ورمز المصريون القدماء إلى موسم الحصاد «شمو» ببعث الحياة فى جسد أوزوريس وكانت علامة ذلك البعث اكتمال نضج الثمار وتحول أعواد القمح إلى اللون الأصفر، حيث عبرت اللغة المصرية القديمة عن أعواد القمح والنبات بكلمة «سيم» وعن نضجها بكلمة «شم إن سيم» بمعنى «تحاريق النبات»، فكانت هذه الكلمة هى الأصل فى تسمية هذا العيد بشم النسيم، ولم يقتصر الاحتفال بهذا العيد على الإله أوزيريس فقط بل شارك فيه عدد من الآلهة الأخرى، الذين ارتبطوا بالخصوبة أو الزراعة مثل الإله «مين» رب الخصوبة والتناسل، والإله «آمون» رب الهواء وملك الآلهة، والإلهة «رننوتت» ربة الحصاد حيث كانت مظاهر الاحتفال بهم تنتشر فى مصر كلها.
وكان الفرعون يشارك بنفسه فى تلك الاحتفالات، حيث يقدم حزمة من باكورة القمح فى هذا الموسم إلى المعبود «مين» رب الخصوبة أمام جموع الناس، ثم يطوف الكهنة وجموع الشعب بموكب هذا الإله وهم يحملون تمثاله فيمرون على الحقول قبل حصادها اعترافا منهم بفضله عليهم، وكانت التقدمة الرئيسية لذلك المعبود هى نبات (الخس) البلدى الذى أطلق عليه المصريون كلمة «عبو»، والذى كان رمزا للخصوبة، حيث يخرج منه سائل أبيض يشبه السائل المنوى عند الرجال لذلك كان الناس فى مصر القديمة يكثرون من أكل (الخس) فى تلك الأيام المبهجة ليمنحهم القدرة على تجديد الخصوبة واستمرارية الحياة.
كذلك فقد كان المصريون يكثرون خلال هذا الموسم من تناول البصل الأخضر، الذى أطلقوا كلمة «حجو»، حيث ارتبط لديهم بمعان رمزية عن عالم الموتى فكان الإله آمون يخرج فى موكب كبير من معبدالكرنك بمدينة طيبة ليعبر نهر النيل ويزور عالم الأموات فى البر الغربى، حيث يجتمع بآلهة الموتى ويزور مقاصيرهم، وكان الجميع يشاركون فى هذا الاحتفال ويزورون موتاهم، وهم محملون بالأطعمة والزهور والبصل الأخضر الذى كان الزوار يحملونه على هيئة باقات من حبات البصل وذلك كى تعمل رائحته النفاذة على إبعاد الأرواح الشريرة عن مقابر موتاهم من ناحية وتساعدهم على ذرف الدموع وتذكر من لهم فى عالم الموتى وأربابه من ناحية أخرى.
أما السمك المملح فقد كان من أغذية المصريين القدماء الرئيسية طوال أيام السنة ولكن ارتبط فى موسم الحصاد بمغزى عقائدى هام حيث ربط المصريون بين السمك المملح وبين جسد المعبود (أوزوريس) فاعتبروا أن عملية تحنيط الموتى باستخدام الملح تقابل فى حد ذاتها عملية تفسيخ السمك من حيث تجفيفه وإضافة الملح إليه، لذلك فلم يكن من الغريب أن يوحد المصريون ما بين أوزوريس والسمك المملح وأن تسجله المناظر الدينية على هيئة السمكة المملحة أيضا، لذلك كان المصرى القديم يتوحد مع المعبود (أوزوريس) عن طريق أكل السمك المملح فى هذا العيد كى يكتسب منه القدرة على إعادة البعث واستمرارية الحياة.
وكان تناول الحمص الأخضر ( الملانة) من الأمور المحببة فى شم النسيم كوسيلة من وسائل الترفيه حيث أطلق عليه المصريون كلمة «حربيك» بمعنى رأس الصقر تيمنا بالصقر الوليد حورس، الذى أنجبته إيزيس بعد ممات أبيه أوزيريس فكان رمزا لإعادة الميلاد وتجدد الحياة للكون كله.
كذلك عبر تناول البيض فى موسم الحصاد عن رمزية البعث وإعادة الميلاد، حيث آمن المصرى القديم بأن البيض كان رمزا لإله الشمس الذى خرج من بيضة كبيرة معلنا بدء الخليقة، كما اعتبره رمزا لإلهات الأمومة ورمزا لبعث الحياة من كل شىء صلب كخروج الفرخ من البيضة وخروج النبت من البذور، وعلى الرغم من أن عادة تلوين البيض قد وفدت إلينا قديما من الفرس خلال القرن السادس الميلادى إلا أن الأصل فى رمزية البيضة ذاتها قد خرج من الحضارة المصرية القديمة.
ومع نهاية موسم الحصاد كان المصرى القديم يختتم الدورة الزراعية بأعياد ميلاد الآلهة الرئيسية، التى يعنى ميلادها تجددا وبعثا للكون بأكمله، وهو ما حرص المصرى القديم عليه كى يضمن لذاته تجدد الحياة والميلاد وعودة الفيضان الثائر واهبا إليه الخير والرخاء مرة أخرى فى دورة الحياة التى لا تنتهى