قصر الحير الشرقي.. مبان أرستقراطية في قلب الصحراء السورية!
التعليق على الصورة: دونيس جانكان رئيس البعثة الأثرية السويسرية أمام بقايا مسجد قصر الحير الشرقي (swissinfo)
سمحت الحفريات التي تقوم بها البعثة الأثرية السورية السويسرية في ضواحي قصر الحير الشرقي في بادية الشام لأول مرة بالتنقيب في مبان كان يقطنها عامة الناس للتعرف على طريقة العيش في بداية العهد الأموي. وتوصلت البعثة إلى أن القصر لم يكن مجرد ملجأ مؤقت للخليفة للصيد أو الراحة، بل مدينة متكاملة بجوانبها الإدارية والدينية والسكنية والإقتصادية والزراعية.ويرتبط الحديث عن قصر الحير الشرقي الذي شيده الخليفة الأموي هشام ابن عبد الملك في عام 738 ميلادي بمدينة متكاملة شيدت بناءا على رغبة هذا الملك في قلب البادية السورية، شأنها في ذلك شأن العديد من القصور المماثلة التي شيدت في العهد الأموي في عدة مناطق واقعة كانت خاضعة لنفوذ الدولة الأموية.
ويقول الخبير دونيس جنيكان، رئيس البعثة الأثرية السويسرية في قصر الحير الشرقي أنه "يعتبر أحد أكبر هذه المدن الأرستقراطية التي شيدها الأمويون في المناطق الصحراوية. وأغلب هذه المدن تشتمل على قصر ومسجد وبعض المباني السكنية والمنشآت الزراعية. ولكن في قصر الحير الشرقي يتعلق الأمر بمشروع أكبر من ذلك. إذ يتعلق الأمر بقصر بمعنى الكلمة، أضيف له قسم يؤوي مباني ومساكن ارستقراطية، ومسجدا عاما، ووحدة اقتصادية بها معصرة لزيت الزيتون. وحول هذه المباني تمتد أحياء سكنية لعامة الناس القاطنين طوال السنة وهي مصنوعة من الطوب اللبن وتمتد على حوالي 30 هكتارا. وإلى الجنوب من القصر يوجد بستان تناهز مساحته 10 كيلومترات مربعة ، محاط بسور من الطوب اللبن يرتفع لأربعة أمتار ومزين. وهو موصول بقنوات للري وقد تم استخدم لزراعة العديد من أنواع الثمار والمحاصيل".
في العهد الأموي، كانت بيوت السكان مزودة بمراحيض موصولة بشبكة لصرف المياه (swissinfo)
فنيات متطورة لنقل المياه من ناحيته، يرى الفني الأثري محمد جمعة العلي، مسؤول الجانب السوري بالبعثة المشتركة في قصر الحير الشرقي الذي يرافق البعثة للموسم الثالث على التوالي أن اهتمام بعثة سويسرية بالجانب الإسلامي من تاريخ سوريا "يعتبر مدعاة للفخر لكون الجانب السويسري يهتم بدراسة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والإطلاع عليها ونشرها والتعريف بما قدمته هذه الحضارة الإسلامية للعالم".
وفي معرض التأكيد على رأيه، شدد هذا التقني الأثري السوري على أن البعثة "أظهرت كيف أن العرب برعوا في قنوات جلب المياه إذ أن قصر الحير الشرقي المتواجد في منطقة خالية من مصادر المياه، كان يُغذى بالمياه من منطقة الكوم التي تبعد عنه بحوالي 30 كيلومترا، وهذا عبر قناة أرضية مصنوعة من الحجر الخالص بها نقاط تنظيف وتفتيش. وقد قمنا في أحد المواسم بالكشف عن الجانب القريب من القصر من هذه القناة وكان به موقع نصبت فيه طاحونة تُدار بقوة المياه لطحن الحبوب".
ولدى سؤاله عن الأجواء السائدة بين الفريقين السوري والسويسري العاملين في هذه البعثة الأثرية المشتركة، يقول محمد جمعة العلي "بحكم أننا نعيش مع بعض ونأكل وننام ونعمل في نفس الموقع، أصبحنا بمثابة عائلة واحدة بها احتكاك أكثر بين أفرادها واستفادة أكثر من الخبرات والتقنيات ".
عمليات ترميم مُكلفة وتتطلب تقنية عاليةتعرض قصر الحير الشرقي لأول عملية تنقيب على يد بعثة أمريكية من جامعة ميتشيغان بقيادة البروفسور أوليغ غرابار ما بين عامي 1964 و 1972. كما تقوم بعثة سورية بمحاولات ترميم منذ العام 1969، واستطاعت تحت قيادة خالد أسعد القيام بترميم السور الخارجي للقصر واكتشاف قناة الري الصخرية، وإعادة تنصيب بعض الأعمدة.
وعلى الرغم من عدم اكتمال الترميم، يستقبل قصر الحير الشرقي من حين لآخر أفواج السياح الذين يتوقفون بالمنطقة في طريقهم الى مدينة دير الزور.
وحول ما تعتزم السلطات السورية القيام به في عملية ترميم قصر الحير الشرقي، يقول المهندس وليد أسعد، مدير متحف وآثار تدمر: "هنالك نوايا مؤكدة لترميم ما يحتاجه الموقع من ترميمات والحفاظ على المظهر المعماري القائم. والعمل الترميمي عمل تخصصي والهدف منه هو حماية ما هو قائم لإبقائه لمزيد من السنوات والأجيال القادمة" أما السياسة الترميمية التي تنتهجها المديرية العامة للآثار والمتاحف فهي "تتمثل في التدخل حسب الحاجة والحفاظ على ما هو قائم لإظهار المكون المعماري الأثري بشكل يمكن الإستفادة منه في الترويج السياحي وتجنب أن يكون التدخل مشوها لفترة تاريخية مهمة"، على حد قوله.
بقايا مطبخ في منزل أحد الأعيان في قصر الحير الشرقي (swissinfo)
خلاصة مفيدة في سياق متصل، سمحت هذه الدراسة التي تجري في محيط قصر الحير الشرقي منذ حوالي عشر سنوات للفريق الأثري السوري السويسري بقيادة دونيس جونكان بتحديد بعض المعالم المتعلقة بكيفية استخدام هذا القصر من قبل الخليفة هشام ابن عبد الملك.
إذ يقول دونيس جانكان"ما أقيم هنا هو عبارة عن مدينة جديدة متكاملة ولكن بحجم مصغر، بها الجانب الإداري الممثل بالقصر المخصص للخليفة، والجانب الديني الممثل بالمسجد الذي يحمل نفس معالم المسجد الأموي في دمشق ولكن بشكل أصغر ويشبه ما وجدناه في الرصافة وجرش وبصرى، وبها الجانب السكني قسم خاص بالأعيان في القسم الثاني من القصر، وقسم لعامة الشعب خارج أسوار القصر".
ويخلص دونيس جانكان إلى أنه "لم يكن قصرا مقاما في البادية يرتاده الخليفة مرة في العام للصيد أو الراحة، بل عبارة عن مركب سكني به قسم يقطنه أناس بشكل دائم، وقسم يقطنه الخليفة وحاشيته بشكل مؤقت". ومع أن رئيس البعثة الأثرية السويسرية يرى أن الهدف الرئيسي لهشام عبد الملك من إقامة هذا القصر في البادية السورية يتمثل في "تعزيز الروابط السياسية والدبلوماسية مع القبائل القاطنة في المنطقة وفي مقدمتها قبيلة كلب الحليفة للأمويين"، فإنه يشير أيضا الى عثور الباحثين على "دلائل مؤكدة من أن سكان هذا الموقع كانوا يزاولون الزراعة بشكل واسع ومتواصل وزرعوا عدة أنواع من القمح والشعير والعدس والكروم والزيتون. إضافة الى بعض الثمار التي كانت تستورد من مناطق ساحلية سورية".
من جهته، يرى وليد أسعد، مدير متحف وآثار تدمر أن "استخدام تقنيات الكشف الجيوفيزيائي سمحت بتحديد مباني مطمورة وأقنية ضخ المياه. كما أدت عملية التنقيب في بعض البيوت المجاورة للقصر إلى اكتشاف أن بعض المنازل كانت تحتوي على جدران مجصصة ومزينة بإطارات زخرفية ومزودة بمطابخ وحمامات مرتبطة بشبكة صرف المياه المالحة". وهو ما يظهر أن هذه المباني المجاورة "كانت معاصرة لبناء القصر ولربما أقدم منه وأن الخليفة سكنها قبل إتمام بناء القصر"، حسب استنتاجات الخبراء