بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شاعرنا هو شيخ الشعراء, أبو الطيب المتنبي الشاعر الأشهر. اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، الذي قيل عنه الكثير الكثير, ومن الأقاويل والآراء:
يقول طه حسين:
.... فشعر المتنبي الذي قاله في مصر أو الذي الهمته إياه مصر مختار كله بريء من السخف واللغو....
ويقول ابن الأثير:
اختص بالإبداع في مواقف القتال, وأنا أقول قولاً لست فيه متأثماً ولا فيه متلثماً,وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة, كان لسانه أمضى من نصالها,وأشجع من أبطالها,وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها, حتى تظن الفريقين قد تقابلا,والسلاحين قد تواصلا, فطريقه في ذلك تضل بسالكه,وتقوم بعذر تاركه, وفي الحقيقة فإنه خاتم الشعراء, ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء..
ويقول أحمد أمين:
ترى القوة تشع في جوانب أساليبه وقوافيه, فإذا اشترك المتنبي وغيره من الشعراء في معنى من المعاني رأيت أبيات المتنبي غالباً أقوى اسلوباً وأجزل لفظاً وأقوى قافية, وأمتن تركيباً, لأنه يسبغ عليها من قوته ويزيد في شدتها وحدتها من شدته وحدته...
ويقول أحد الأساتذة:
إذا اخترنا من شعراء العرب معلماً لأولادنا فلا يصلح لهم إلا هذا الرجل.
ويقول بطرس البستاني:
في شعر المتنبي من قوة البلاغ, وطيب المساغ, ما يستبي الأسماع ويلج القلوب بغير استئذان.
سيرته:
يقول طه حسين:
(إن سراً من الأسرار يكتنف حياته ويحيط بأسرته...وأن مولده كان شاذاً, وقد أدرك هذا الشذوذ فتأثر به في سيرته كلها)
وكان المؤرخون قد أجمعوا على اسمه ولقبه ونسبه, إلا أنهم اختلفوا في اسم أبيه وأجداده, وفي عقائده السياسية والدينية فعلى الرغم أن أكثر الباحثين يقولون بأن اسم والده عبدان السقا نرى بعضهم يقول أن اسمه محمد والآخر حسين, ويشك في أصل والدته ولا يعرف ان كانت عربية أم عجمية.
لقد أبصر حياته في الكوفة, وراح يتنقل بين الوراقين والكتاب, وظهرت عليه علامات الذكاء وحب العلم وهو صبي, ثم انطلق إلى البادية يطوف بها ويعاشر أقوامها, ويتصل بأساطين العلم والأدب, وكان قوي الذاكرة, حتى قيل عنه أنه حفظ في أحد مجالس الوراقين وفي وقت قصير عشرين ورقة من كتاب للأصمعي, وقد كان ذلك حين أحضر أحدهم ذلك الكتاب لبيعه وفيه نحو ثلاثين ورقة, فراح المتنبي ينظر فيه طويلاً حتى ضجر منه صاحبه, فقال له: يا هذا... انني أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك فإن كنت تريد حفظه فهذا بعيد في هذه المدة, فأجابه المتنبي: إن كنت حفظنه فما لي عليك؟ فقال الرجل:أهب لك الكتاب. وراح المتنبي يتلو الكتاب من ذاكرته حتى أذهل الحاضرين وكان حافظاً كل ما قرأه...ثم خرج من الكوفة بعد استيلاء القرامطة سنة 316هجري.ورحل إلى بغداد, ثم غادرها متوجها إلى الشام.فمر بحلب وانطاكية, ومنها إلى اللاذقية, حيث رحب به القوم هناك,وادعى أنه نبي مرسل وراح يأتي بكلام مسجع زعم أنه قرآن منزل منه ما رواه لنا معاصروه ابو علي بن حامد(والنجم السيار, والفلك الدوار في الليل والنهار,إن الكافر لفي أخطار....الخ) ولما تفاقم خطر دعوته طورد من قبل أمير حمص الذي حبسه حتى كاد يهلك ثم أخذ عليه وثيقة شهد فيها ببطلان ما ادعاه, ورجوعه إلى الإسلام, ويقال إنه ادعى النسب العلوي وتشبث به لفترة ثم زين له ذكاؤه وكبرياؤه أن يشبِّه نفسه بالأنبياء فقال:
أنا في أمة تداركها الله&& غريب كصالح في ثمودِ
ما مقامي بأرض نخلة إلا && كمقام المسيح بين اليهود
كان ادعاؤه النبوة وهو فتى لم يبلغ العشرين من عمره, غير أن أبا العلاء المعري يدافع عنه ويقول في رسالة الغفران أن المتنبي لم يدع النبوة, وينفي هذه التهمة بقوله:
وكن فارقاً بين دعوى أردت && ودعوى فعلت بشأوٍ بعيدِ
ربما دعوته كانت سياسية للتمسك بالقومية العربية ضد الأعاجم, لكن الحاسدين أرادوا الايقاع به فزعموا أنهادينية.والله أعلم.
انتقل إلى حلب واتصل بسيف الدولة ومدح الحمدانيين وأقام بحلب مدة طويلة ينشد أروع أشعاره في تصوير المعارك والوقائع, ويحارب جنباً إلى جنب مع سيف الدولةضد الروم,فربطتهما روابط مودة وإعجاب كل بالآخر,غير أن أمير حلب سرعان ما أعار الحساد انتباهه والتفت اليهم ليستمع إلى وشايتهم, وبشعره كان يشكو ويقول:
أزل حسدَ الحسَّاد عنِّي بكبتهم ^^ فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر && ضعيف يقاويني قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل && وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
ومن أشعار مديح سيف الدولة:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ && وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وتعظم في عين الصغير صغارها &&& وتصغر في عين العظيم العظائمُ
يكلف سيف الدولة الجيش همه &&& وقد عجزت عنه الجيوش الخضارمُ
وكان في مقدمة الموقعين به أبو فراس الحمداني وأبو العباس, وابن خالويه, فقال في هؤلاء:
أرى ذلك القرب أثار ازورارا ^^ وصار طويل السلام اختصارا
تركتني اليوم في خجلة &&& أموت مراراً وأحيا مرارا
وأعلم أني ما اعتذرت &&& إليك أراك اعتذاري اعتذارا
ولكن حمى الشعر إلا القليل &&& هم حمى النوم إلا غرارا
ثم أنشده قصيدته الرائعة التي مطلعها:
وا حرَّ قلباهُ ممنْ قلبه شبمُ ^^^ ومنْ بجسمي وحالي عنده سقمُ
فأغضبت هذه القصيدة حاشية الأمير وضجرسيف الدولة مما قيل حولها وكثرت تعليقات الحاسدين,فضرب المتنبي بمحبرة كانت بيده فشج رأس المتنبي وسال الدم على لحيته وارتجل:
إن كان سَرّكُمُ ما نال حاسدنا *** فما لجُرح إذا أرضاكمُ ألمُ
فأعجب الأمير لهذا البيت ورضي عنه, ولكن الحاسدون أظهروا وشاية علاقة حب مع أخت سيف الدولة, وهنا كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير بالعلاقة مع سيف الدولة وحدث الفراق والرحيل بعد قضاء تسعة أعوام.
رحل إلى مصر واتصل بكافور الإخشيدي ( الخليفة أو ملك مصر )وكان متأملا منه ولاية أو إمارةوقد مدح كافورا بشعر جميل. قال فيه مسميا إياه أبا المسك وأبا الملوك:
وبحر أبو المسك الخضم الذي له &&& على كل بحر زخرة وعباب
تجاوز قدر المدح حتى كأنه&&& بأحسن ما يثنى عليه يعاب
وقال:
نزلت بأرض مصر فلا ورائي &&& تخب بي الركاب ولا أمامي
ولما صار ود الناس خِبـــَّاً &&& جزيت على ابتسام بابتسام
ولم يعطه كافور ما كان متوقعاً من كرم وإمارة بل أعطاه قصراً فقط,وكان طموحاً فبرد حبه له ثم تسلل الجفاء بين القلبين وحدثت القطيعة فهرب من عنده المتنبي ثم هجاه شعراً كوميدياً رائعاً وقال:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيد؟ &&& بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ
أما الأحبة فالبيداء دونهمُ &&& فليت دونك بيداً دونها بيدُ
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي &&& شيئاً تتيمهُ عين ولا جيد
إلى أن يقول في كافور الاخشيدي:
صار الخَصِيُّ إمامَ الآبقين بها &&& فالحرُّ مستعبدٌ والعبد معبودُ
لا تَشْترِ العبْدَ إلا والعَصا معَهُ &&& إنَّ العبيدَ لأنجاس مناكيدُ
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن &&& يُسيء بي عبْدٌ وهو مَحمودُ
ويهجو كافورا بشعر كوميديٍ رائع فيقول:
وماذا بمصرَ من المُضْحِكات &&& ولكنَّه ضَحِكٌ كالبُكا
بها نبطي من أهل السواد ^^^ يُدرِّسُ أنسابَ أهلِ الفلا
وأسود مشفرهُ نصفهُ &&& يقالُ لهُ أنتَ بَدرُ الدُّجى
وشعر مدحت به الكركدن &&& بين القريض وبين الرقى
فما كان ذلك مدحاً لهُ &&& ولكنهُ كانَ هجو الورى
وقد ضلَّ قوم بأصنافهم && وأماَّ بزٌٍّقٍ رياحٍ فلا
توجه بعدها من مصر إلى بلاد فارس ومكث فيها ثم دعاه أبو العباس الصاحب بن عباد لزيارته في أصفهان ليمدحه , فخرج إليه وهو في الطريق تعرض له قوم لهم عنده ثأر لأنه هجا لهم أمهم بقوله:
ما أنصف القوم ضبه &&& وأمه الطرطبَّهْ
ودارت بينهما معركة أبلى فيها المتنبي بلاء حسناً, لكن الكثرة تغلب الشجاعة وهرب فصرخ فيه غلامه وراوية شعره قائلاً(ويح نفسي ألست أنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني &&& والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
وهنا شعر المتنبي بالخجل وفضل الموت على التنصل من شعره وعاد لمقتله.
من أجمل أشعاره:
قال يهنىء سيف الدولة بالعيد:
الصَّومُ والفِطرُ والأعياد والعصْر ُ&&& مُنيرة بكَ حتّى الشَّمس والقمرُ
تُري الأهلَّةُ وحبُها عمَّ نائلهُ &&& فما يخصُّ به من دونها البشر
ما الدهرُ عندك إلا روضة أنف &&& يا من شمائله في دهره زهر
ما ينتهي لك في أيامه كرمٌ &&& فلا انتهى لك في أعوامه عمر
فإن حظك من تكرارها شرفٌ &&& وحظُّ غيرك منها الشيب والكبرُ
قال وقد دخل عليه رسول ملك الروم سنة 343هجرية:
ظلم لذا اليوم وصف قبل رؤيته && لا يصدق الوصف حتى يصدق النظر
تزاحم الجيش حتى لم يجد سبباً&& إلى بساطك لي سمع ولا بصرُ
فكنت أشهد مختص وأغيبه && معايناً وعياني كله خبر
اليوم يرفع ملك الروم ناظره && لأن عفوك عنه عنده ظفرُ
وإن أجبت بشيءٍ عن رسائلهِ &&فما يزال على الأملاك يفتخرُ
قد استراحتْ إلى وقت رقابهمُ && من السيوف وباقي القوم ينتظرُ
وقد تبدلها بالقوم غيرهمُ && لكي تجم رؤوسُ القوم والقَصَرُ
تشبيه جودك بالأمطار غاديةً && جود لكفك ثان ناله المطر
تَكسَّبُ الشمسُ النورَ منك طالعةً&& كما تكسَّب منهانوره القمرُ
والمتبي بحق من أساطين الشعراء, كتب أجمل الأشعار , وقال مادحاً نفسه:
أنا الذي نَظر الأعْمَى إلى أدَبي&& وأسْمَعَت كلماتي من به صَمَمُ
وأجمع ناقدوا الشعر على أنه أفضل من وصف في المعارك فتأمل أخي هذه الأبيات رعاك الله:
رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا && وما علموا أنَّ السهامَ خيولُ
شوائل تشوال العقارب بالقنا &&& لها مرحٌ من تحتها وصهيلُ
حتى ينتهي إلى القول:
فما شعروا حتى رأوها مغيرة &&& قباحاً وأما خلقها فجميلُ
سحائبُ يمطرن الحديدَ عليهمُ && فكلُّ مكانٍ بالسيوف عسيلُ
ويبدع في وصف الجيش الهارب فيقول:
تحمل الريح بينهم شعر الهام && وتذوي عليهم الأوصالا
ينفض الروع أيدياً ليس تدري && أسيوفاً حملن أمْ غلالا
ويقول أيضاً:
تمُر ُبك الأبطالُ كَلْمَى هزيمةٍ && ووجهك وضَّاحٌ وثغرُكَ باسمُ
لا تحسب ان الصمت نسيان فالجبل صامت بداخلة بركان