.
أدلى الجنرال عاموس يادلين، الرئيس المنتهية ولايته لجهاز الاستخبارات العسكرية
الإسرائيلية (أمان)، بتصريحات فى حفل أقيم بمناسبة تسليمه مهام منصبه لخلفه الجنرال
آفيف كوخفى تستحق أن نتوقف عندها. ففى معرض استعراضه لأهم ما حققه جهازه
الاستخباراتى من إنجازات خلال أربع سنوات ونصف السنة قضاها على رأسه، سرد يادلين
قائمة طويلة من المنجزات، لفت نظرى فيها أمران:
الأول: أن مسرح عمليات الجهاز يشمل المنطقة بأسرها دون تمييز بين دول (صديقة)
وأخرى (عدوة)، أو دول (معتدلة) وأخرى (متطرفة)، حيث يبدو أن كل الدول العربية
والإسلامية تعد، من منظور هذا الجهاز، إما عدواً فعلياً أو عدواً محتملاً.
الثانى: أن مصر تقع فى القلب من أنشطة هذا الجهاز ولاتزال تشكل أحد أهم مسارح
عملياته. وليس هذا بكلام مرسل، اعتدنا قوله فى مناسبات كهذه، وإنما هو عين ما قاله
الرجل المسؤول عن أحد أهم أجهزة تنفيذ السياسات «الحقيقية» لإسرائيل. لذا أرجو أن
تتأملوا معى دلالة فقرة خصت مصر فى تصريحاته، نصها كالتالى: «لقد تطور العمل فى مصر
حسب الخطط المرسومة منذ عام ١٩٧٩. فقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية فى
أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى لتوليد بيئة
متصارعة متوترة دائماً ومنقسمة إلى أكثر من شطر، لتعميق حالة الاهتراء داخل البنية
والمجتمع والدولة المصرية، ولكى يعجز أى نظام يأتى بعد حسنى مبارك عن معالجة مظاهر
الانقسام والتخلف والوهن المتفشى فى هذا البلد».
فما الذى توحى به هذه التصريحات صراحة أو ضمنا؟: ١- أن إسرائيل لم تكن فى أى يوم
من الأيام جادة فى البحث عن تسوية للصراع فى المنطقة ولا ترى فى معاهدة «السلام» مع
مصر سوى إحدى أدوات «إدارة» الصراع، وليس حله أو تسويته، والهدف: إخراج مصر من
المعادلة العسكرية للصراع وإضعاف روابطها مع العالم العربى. ٢- أنها لم تغير من
رؤيتها لمصر كدولة «عدو» بعد إبرام معاهدة سلام ولكنها استبدلت بأسلوب المواجهة
العسكرية معها فى ميادين القتال أسلوب المواجهة الشاملة فى جميع الميادين الأخرى من
أجل «تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية»، وفقا لنص تعبيرات
يادلين نفسه. ٣- أنها تعاملت مع معاهدة السلام مع مصر كمكسب استراتيجى يتيح لها
القدرة على اختراق العمق المصرى والوصول إلى جميع المفاصل المجتمعية الحساسة التى
كانت تبدو مستعصية عليها فى مرحلة المواجهة العسكرية. ٤- أنها تنظر إلى النظام
السياسى الحالى فى مصر باعتباره نظاما مثاليا، من منظور مصلحتها الوطنية، لأنه، من
ناحية، لا يرى فيها مصدرا للتهديد، ولأن سياساته على مختلف الصعد تتيح لها، من
ناحية أخرى، قدرة أكثر على التغلغل فى أحشاء المجتمع المصرى لإضعافه واستئصال
مناعته.
وتفسر هذه التصريحات ليس فقط أسباب ما تبديه إسرائيل من حماس للرئيس مبارك، الذى
تعتبره كنزا استراتيجيا، وإنما لمشروع التوريث أيضا. لذا لا يخالجنى شك فى أنها
تسعى جاهدة لإقناع الإدارة الأمريكية بالكف عن ممارسة أى ضغوط على النظام المصرى
لصالح التحول الديمقراطى. ولأن إسرائيل اعتادت ألّا تضع بيضها كله فى سلة واحدة،
فمن المؤكد أنها لم ولن تعتمد على حسن نوايا أى رئيس مصرى، حتى لو كان مبارك الأب
أو مبارك الابن، إلا بمقدار ما يساعدها على الإبقاء على مصر ضعيفة ومهلهلة وفاقدة
للمناعة. لذا لا يتعين أن نندهش حين نرى أصابعها بوضوح فى الجهود الدولية الرامية
لدفع جنوب السودان نحو الانفصال، أو حين تصل الجرأة ببعض منظمات أقباط المهجر إلى
حد الجهر علناً بالدعوة للتنسيق مع إسرائيل من أجل «طرد الغزاة المسلمين من
مصر».
ملحوظة: ليس القصد من إعادة نشر هذا المقال الإيحاء بأن إسرائيل وراء تدبير
جريمة الإسكندرية، ولكن للتأكيد على أن المخاطر الداخلية والخارجية تصب فى ذات
الاتجاه، وهو تفكيك الدولة والمجتمع فى مصر. فإسرائيل تدرك يقينا أن أمنها المطلق
لن يتحقق إلا بتفكيك الدول المركزية فى العالم العربى، وفى مقدمتها مصر، إلى دويلات
طائفية متصارعة تصبح هى الحكم بينها والمتحكم فيها.