لا يتفق الجميع على أن الملوخية هي أكلتهم المفضلة، لكنهم يتفقون على أنك إذا أردت أن تتناول الملوخية فلتتناولها على الطريقة المصرية. ونتساءل دومًا: لماذا يتقن المصريون صنع الملوخية أكثر من غيرهم من الشعوب العربية؟وسأجازف بالقول أن الملوخية المفضلة هي التي تتميز بانصهار عناصرها ولزوجتها. وهكذا هي الملوخية المصرية، إذ تنصهر عناصرها حتى لا تتمكن من التمييز بين ورق ومرق الملوخية ، فيؤدي هذا في ذروته إلى لزوجة تمنح الملوخية شكلها المميز عن باقي الإدامات الورقية الأخرى. هذه اللزوجة التي هي سر تميز الملوخية المصرية عن غيرها، لا يصطنعها المصري في ملوخيته، بل هي تأتي عفوية في سياق النسيج الاجتماعي المصري اليومي.و«اللزوجة» هي مناط المدرسة السوسيولوجية الملوخية، أو ما يمكن تسميته بـ«الملوخيّزم »، حيث يتصف المجتمع المصري بلزوجة في عناصره وقضاياه وهمومه، لتتشكل كل هذه المقادير في إناء واحد هو «الشخصية المصرية». ويجب التأكيد أن هذا التفسير الملوخي للشخصية المصرية لا يأتي هنا على سبيل المدح أو الذم، بل على سبيل الوصف، أيًّا شُحن هذا الوصف بالسلب أو الإيجاب، تمامًا كما تروق لزوجة الملوخية لبعض متذوقيها دون الآخرين.في مصر، ترى اللزوجة بين الأزهر والهرم، والشعراوي وعبدالرحمن بدوي، وعبدالباسط عبدالصمد وعبدالحليم حافظ، ومصطفى صادق الرافعي وعادل إمام.وفي مصر، تجد ملوخية الألقاب. فالفروقات بين أن تُنادى:يا«أمير» أو تُنادى: يا«هايف» هي فروقات لزجة ذات دوافع ملوخية! لكن لماذا هذه اللزوجة في السوسيولوجيا المصرية؟إنها تأتي منسجمة مع التركيبة النفسية للشخصية المصرية، فالإنسان المصري يتمتع بين الشخصيات العربية الأخرى بأعلى معدل من الرهافة والعاطفة التي تجعله سريع التقلب بين الغضب والرضا، والمدح والذم والضحك والبكاء، والخشوع والفرفشة.ولأنه كذلك فإن اللزوجة الوجدانية هي أسهل الأساليب لسرعة التحول من الغضب إلى الرضا، حيث ليس ثمة فارق صلب بين هذين الشعورين، يستدعي بذل جهد كبير للتحول من أحدهما إلى الآخر، كما تفعل الشعوب العربية الأخرى.فعند الشعوب العربية الأخرى، عندما يتخاصم اثنان قد يمكثان أيامًا أوشهورًا أو أعوامًا على خصامهما، أما المصريان المتخاصمان فإنك لن تلبث كثيرًا حتى تراهما يرتشفان الشاي معًا بصحبة آخر نكتة! ومردّ ذلك هو الحاجر المصري اللزج بين الصداقة والخصومة.ولذا فإن المصري قد يكون صديقًا لك مدى الحياة ـ رغم بعض الخصومات الطارئة ـ لكنه لا يمكن أن يكون عدوًا لك مدى الحياة.المصريون هم الأقدر على إضحاك المشاهد العربي عبر الكوميديا المصرية، وهم أيضًا الأقدر على إبكاء المشاهد العربي عبر التراجيديا المصرية.المصريون هم الأكثر نكتة وابتسامة، وهم الأكثر موعظة ودموعًا.المصريون هم الأكثر وطنية، وهم الأكثر هجرة وتغرّبًا.ü ü üالآن أدركت لماذا يسمون مصر «أم الدنيا»، ولا يسمونها «أبو الدنيا»، هي أم الدنيا لأنها الرحم الذي لا ينضب، بل يصدّر أولاده إلى الدول العقيمة، دون وصاية من أب!