منذ شهر تقريبا اقتحم بلطجى منزل شقيق زوجته فى منطقة إمبابة
وأيقظه من نومه وسحله إلى الشارع ضربا باللكمات واستوقفه على ناصية الحارة
وذبحه أمام الجيران وانتظر حتى ينتهى من رعشة الموت والتأكد من وفاته ومسح
السكين فى ملابس القتيل وتركه جثة هامدة وسط ذهول الجيران.وفى
الأسبوع الماضى شهد شارع المدرس بمنطقة الطالبية مجزرة بشرية بشعة راح
ضحيتها شقيقان ذبحهما ٤ جزارين وضربوا شقيقهما الثالث بالساطور فى رأسه من
الخلف دون أن يتجرأ أحد من الجيران الإقدام على إنقاذ الأشقاء من يد
المتهمين.ما جرى وتكرر فى أكثر من مكان يدق ناقوس خطر من
تحول جرائم القتل فى الشارع إلى شىء عادى فيها يذبح الضعيف على مرأى ومسمع
الجميع بما فيهم أجهزة الأمن وبعد خراب مالطة ــ بساعات ينتقل ضباط الشرطة
والنيابة لإنهاء مراسم معاينة الجريمة والمذبحة والتحقيق فيها ونقل الجثث
إلى المستشفى. غير أن التفاصيل فى مجزرة العمرانية مخيفة ومروعة.
لأن
المصريين لم يعتادوا مشاهد القتلى والجرحى فى شوارعهم، كانت وقائع المذبحة
التى شهدها أحد شوارع العمرانية صادمة، خاصة أن الناس لم يسمعوا بها وإنما
شاهدوا وقائعها على شريط مصور بثته إحدى الفضائيات، والصورة التى التقطها
أحد سكان شارع المدارس عبر كاميرا هاتفه المحمول، تغنى عن كل وصف، فقد كان
شاب ممددا على الأرض غارقا فى بركة من دمائه وتحلق حوله المارة، وعلى
مسافة ليست بالبعيدة استقر جسد شقيقه وقد نحرت عنقه وانكبت سيدة عجوز على
جثة الذبيح من هول الصدمة وقد تلاشى صوتها وعويلها، وجلس الشقيق الثالث
وقد شجت رأسه بفعل بلطة، وحول أبطال المشهد اصطبغت الصورة باللون الأحمر
القانى، وخلف الصورة مأساة تفوق أرقام المحاضر، ومعلومات صفحات الحوادث،
فالقتيل فى محاضر الشرطة مجرد صفة يحملها المجنى عليه وفى صفحات الحوادث،
لا يتعدى كونه اسم أو أحرف متفرقة وربما صورة، ولكن القتيل فى الشارع فزع،
ولدى أهله كارثة يصعب إزالة آثارها، مهما مر من زمن.
استغاث الشيخ
عبدالفتاح ليتجمع على صوته المارة، وتفتح النوافذ والبلكونات ليطل منها
الجيران لاستطلاع ما جرى، ليشاهدوا الرجل ممددا على الأرض.. ملابسه ممزقه
والدماء تتساقط من رأسه، وقد شهرت فى وجهة سكاكين وسواطير الجزارين الذين
انهالوا عليه بالضرب والألفاظ النابية، بصعوبة شديدة نهض العجوز وتمكن من
الوصول إلى محل الطيور المواجهة للجزارين ليلقاه محمد عبدالعظيم (42سنة)
صاحب المحل، وبعد أن طالع هيئته خرج مسرعا إلى الجزارين راجيا أن يتركوا
العجوز ليحاصره 3 رجال ووالدهم، رافضين أن يكون واسطة خير بينهم وبين
العجوز الذى بح صوته فى مطالبتهم بالإيجار على مدار عشر سنوات.
حاول محمد تهدئة احمد أبوالغيط والد الجزارين وحثه على ترك العجوز إلى حال
سبيله فتطاول احدهم عليه، تجاهل الشتائم فطلب من أبوالغيط أن يهدئ أبنائه،
وحاول إبعادهم عن محل الطيور، ليدفعه أبوالغيط فى صدره، معلنا بدء المذبحة.
انهال
الأبناء وأبوهم طعنا على محمد، وسط ذهول الجميع ليتحول الشارع إلى بحيرة
من الدماء وجسد محمد يتدحرج فى كل اتجاه بين أسلحة فرقة الإعدام، لحظتها
ظهر سمير واقترب لمعاينة جثة أخيه.. جلس على الأرض يقلب الجثمان فى ذهول،
وقبل أن يبادر بكلمة، استأنف الفريق عمله، وذبحوه كالشاة، ليسقط جثة
هامدة، وما هى إلا لحظات وجاء الدور على الشقيق الثالث محمود، الذى حاول
الجيران إثناءه عن الظهور فى ميدان المعركة، ولكن قلبه لم يطاوعه على
الهروب وترك جثمانى شقيقيه للتمثيل بهما.
اقترب محمود من الجثتين
ليحاصره الجزارون، وينهالون عليه بالسواطير، ويتركونه دون أن يتأكدوا من
موته، ويتفرغ القتلة لوصلة إرهاب ضد كل الجيران، ويحضرون زجاجات مملوءة
بالبنزين ويضعونها بين أجساد الضحايا المتناثرة على الأرض، وحين حاولت
زوجتا القتيلين أن يصلا إلى حيث استقر جثمانا القتيلين، حالت دونهما
«قنابل المولوتوف» التى أمطرت الشارع من كل صوب، وكعادة كل مشاهد الإجرام
فى الأفلام القديمة، يختتم الفيلم بوصول الشرطة والإسعاف. ولكن بعد فوات
الأوان.
لم يجرؤ على اختراق النيران سوى أم القتلى التى انطلقت صوب
أبنائها المدرجين فى دمائهم وانكفأت على جثمان محمد، وانتقلت منه لسمير ثم
محمود، وقد أصابتها لوثة وهى تتعثر بين قتيليها وشقيقهما الموشك على
الهلاك، لطخت الأم وجهها بدماء أولادها وراحت تستغيث: «انقذونا ياناس،
غيتونا يا عالم، الحقوا العيال، هاتوا الإسعاف».
لحقت بالأم
زوجات الأبناء، وأطفالهم الـ21، وقفت كل زوجة أمام جثمان زوجها، والتف
حولها أبناؤه، وبدأ ظهور الجيران بعد أن اختفى القتلة بأسلحتهم، وظل
الأطفال وأمهاتهم يصرخون، ووضعت زوجة محمد أصغر أبنائه فوق صدره، وراحت
تولول، على زوجها وصغيرها الذى لم يتعد العشرين يوما: «أبوك اندبح وأنت فى
اللفة يا يوسف، مين هايربيك ويصرف عليك»، «العار جالك وأنت فى اللفة يا
حبيبى»، وتترك الزوجة الطفل مع والده للمرة الأخيرة، وتتجه إلى جثمان سمير
دافعة زوجته من فوق صدره للتأكد من أنه مازال على قيد الحياة، وبعد أن
توقن أنه فارق الحياة، تنهار إلى جوار جثته».
وحاول عدد من
الجيران أن يبقى على حياة محمود الذى نجا من الموت، وإن كان يصارع نزيفا
حادا يوشك أن يقضى عليه، فيما تفرغ باقى المارة لتصوير آثار المذبحة
بكاميرات هواتفهم المحمولة، وانصرف غالبيتهم قبل قدوم الشرطة.مرت ساعة
تقريبا حتى وصل رجال المباحث إلى موقع المذبحة. كانت دماء الجثث تجلطت على
الأرض والجيران هربوا من استجوابات المباحث وأسرة المجنى عليهم أصابهم
اليأس، والإعياء، فاستقروا فى أماكنهم.
بدأ أسامة سيف، رئيس نيابة
حوادث جنوب الجيزة، فى معاينة جثتى الشقيقين بإشراف من المستشار حمادة
الصاوى المحامى العام لنيابات جنوب الجيزة، تبين من المعاينة إصابة محمد
عبدالعظيم (42 سنة) بجرح غائر فى القلب وآخر فى الصدر و5 جروح فى الرقبة
وذراعه اليمنى، وبمناظرة جثة سمير عبدالعظيم (40سنة) تبين إصابته بجرح
نافذ فى القصبة الهوائية وكسر فى الرقبة لتعرضه للضرب بالساطور على رقبته
عدة مرات.
أما محمود الذى تم انقاذه فكانت إصابته عبارة عن كسر فى
الجمجمة وجروح فى يديه وتم علاجه بالمستشفى وظل تحت رعاية الاطباء.وصلت
معلومات إلى ضباط مباحث العمرانية تفيد بوصول الجناة إلى مستشفى أم
المصريين لاثبات إصابتهم ببعض الجروح، فأسرع ضباط المباحث إلى المستشفى
وألقى القبض على الجزارين الاربعة وهم أحمد أبوالغيط (52سنة) وأبناؤه
الثلاثة موسى (35سنة) ويوسف (33سنة) ويحيى (30سنة) وبمواجهتهم قرروا جميعا
«حدوث مشاجرة بينهم وبين بائعى المجنى عليهم، تبادلا خلالها الاعتداء على
بعضهما البعض وأصيب كل منهم بعدد من الجروح، وقالوا إنهم حضروا إلى
المستشفى للعلاج وإثبات الواقعة وارشدوا عن الاسلحة المستخدمة فى
المعركة».
أمرت النيابة بالتحفظ على الأسلحة المستخدمة فى الحادث
وتحليل الحامض النووى للدماء التى عثر عليها بالسكاكين لمطابقتها مع دماء
المجنى عليهم ورفع بصمات الجناة.
استمعت النيابة إلى شهود العيان الذين
شاهدوا المجزرة منذ اللحظات الاولى وقرر أحد الشهود أن الشيخ عبدالفتاح
«ذهب إلى الجزارين فى الثانية عشرة ظهرا ليطالبهم بإيجار محل الجزارة
الواقع فى العقار الذى يمتلكه، ولم يدفعوا له الايجار منذ أكثر من 10
سنوات، وكان بينهم بعض القضايا والتى خسرها عبدالفتاح، وكان لزاما عليه أن
يحصل على الايجار بالطرق الودية، إلا أنهم رفضوا تسليمه أى مبالغ واعتدوا
عليه بالضرب، وعندما تعرض للإهانة الشديدة والصفع على وجهه وهو رجل مسن،
استنجد بمحمد الذى تدخل كثيرا لحل مشكلة الإيجار».
وأضاف الشاهد:
«وفور خروج محمد من المحل اعترضه احمد أبوالغيط ومنعه من التدخل، وتطاول
عليه لتقع مشادة كلامية بينهما ،وفجأة خرج الأشقاء الثلاثة يحملون
السواطير وبعض زجاجات المولوتوف والتفوا حول محمد وطعنوه عدة طعنات وفور
وصول شقيقه سمير تناوبوا الاعتداء عليه أيضا واستمروا فى تهديد سكان
الشارع بالقتل فى حالة التدخل لانقاذ المجنى عليهما، واعتدوا بالضرب على
الشقيق الثالث فور خروجه من الصلاة وأشعلوا زجاجات البنزين التى أعدوها
لتهديد المواطنين اثناء المعركة»، فأمرت النيابة بحبس المتهمين 4 ايام على
ذمة التحقيق وتجديد حبسهم فى المواعيد المقررة والتحفظ على الشيخ
عبدالفتاح صاحب المشكلة.
انتقلت «الشروق» إلى شارع المدرس الذى
يقطن به عائلتا الجناة والمجنى عليهم، المنزلان متواجهان ولا تفصل بينهما
مسافة تذكر وفى أربعة طوابق متوالية تقيم عائلة القتلى، فقد استقل كل شقيق
من الضحايا بطابق يقيم به وأسرته.محمد فى الطابق الأول ولدية 8 أولاد
أكبرهم عبدالرحمن فى الصف الأول الاعدادى وأصغرهم رضيع عمرة 23 يوما، أما
سمير فمتزوج من سيدتين الأولى تقطن فى منزل العائلة والثانية فى شقة بأحد
الشوارع المجاورة ولدية 9 أولاد أكبرهن هدى فى الصف الأول الاعدادى وآخرهم
الطفل يوسف وعمره عشرة أشهر فقط.
أمسكت الأم بأصغر أحفادها
وتساءلت: «مين هايصرف على الولد ده ولما يكبر أقوله أبوك اتقتل أمام عينى
وعين اخواتك.. يا ناس غيتونى وارحمونى. نار مولعة فى قلبى. حرام عليكم 3
عيال يترموا قدامى وهما غرقانين فى دمهم ولاحد يقدر يحميهم من السكاكين
والسواطير اللى كانت بتدبح فيهم»..وتضيف: «أنا فى اليوم ده كنت فى شقتى
وسمعت صراخ وبعدها صوت عال لابنى محمد خرجت البلكونة وشاهدت أولادى
مدبوحين وفى الأرض وأمام منزلنا ومحالاتنا ونزلت بسرعة وحاولت أشوف حد
منهم فيه الروح».
انخرطت السيدة فى البكاء وقالت: ليس بيننا وبين
أولاد أبوالغيط مشاكل نهائيا، وكان آخر تعامل بينى وبينهم عندما سلمت
والدهم مبلغ 500 جنيه لشراء خروف لاعداد عقيقة لابن محمد الصغير (يوسف)
ولم أكن أعرف أن المتهمين تربصوا لأولادى وأعدوا السكاكين قبل الجريمة
بيوم واحد وجهزوا زجاجات البنزين، وحرروا محضرا قبل الواقعة حتى تقيد
الجريمة مشاجرة، وليس قتل مع سبق الإصرار والترصد وأثناء التفاهم مع صاحب
المشكلة قام القتلة بالالتفاف حول محمد وقتلوه، وعندما حاول شقيقه إنقاذه،
غرس موسى السكين فى ظهره وأخرجها من قلبه وتركه جثة هامدة».
وتابعت
أم القتلى: «أنا عايزة حقى من الحكومة لاننا وقعنا غدر، واتصلنا بالشرطة
لإنقاذنا إلا أنها لم تحضر إلا بعد مقتل أولادى وحتى الاسعاف تأخرت عن
نجدتهم، وكأننا فى غابة يأكل فيها القوى الضعيف.. أرجوكم أنا هاموت ياناس
من اللى شفته بعينى»أما الطفل عبدالرحمن محمد (13سنة) أكبر طفل فى العائلة
وقال: أنا مش عارف أخرج للشارع وكل العيال بيقولوا لى أبوك اتقتل فى ثوانى
وأنا عايز آخد حق أبويا اللى ضاع».
وتكمل الحديث زوجة المجنى محمد:
«زوجى لم يحمل فى يده سلاح أو حتى خشبة والمتهمين حضروا أمام منزلنا
وقتلوه أمام بيته مع إن كان هدفه تهدئة الأمر بين الجزارين والشيخ
عبدالفتاح ولكنهم التفوا حوله وقتلوه غدر».وأضافت: «حسبى الله ونعم الوكيل
فى اللى قتلوا زوجى وهو أعزل.. اتصلنا بالنجدة فى بداية المشادة الكلامية
ولكن خلال 5 دقائق كان الجزارين قد قتلوهم.. ونفسى أعرف فين الأمن والأمان
اللى بيتغنى بيه المسئولين فى وسائل الإعلام».
وقال محمود الشقيق
الثالث الذى أنقذته العناية: «أشعر بالظلم الشديد وضياع أشقائى فى دقائق..
الأمر كان مدبر بدليل إعداد زجاجات المولوتوف فى وقت ما كان محمد يسعى لحل
مشكلة الإيجار».وعما شاهده قال محمود: «حاولوا قتلى، يحيى ضربنى على راسى
من الخلف بساطور، وتم نقلى مباشرة إلى مستشفى أم المصريين وبعدها إلى قصر
العينى وخضعت لعملية جراحية، ولكن للأسف مازال الجرح ينزف وأخشى أن تتطور
الإصابة».
وأضاف: «لن أتقبل عزاء فى اشقائى إلا بعد أن تأخذ
العدالة مجراها، ونحصل على حقهم فأنا أصبحت فى دقائق مسئولا عن 21 طفلا و4
سيدات وأمى فكيف اتصرف فى هذه التركة الثقيلة وهل سأدفع الثمن دون أن يقتص
القانون من القتلة؟ ».