نسج الغربيون ممن عاشوا في إستانبول وعاصروا الدولة العثمانية قصصًا معظمها من الخيال، وقليل منها من الواقع حول حياة الحريم في القصور العثمانية خاصة قصر طوبقوسراي مقر السلاطين العثمانيين، ومرد اهتمامهم بحياة الحريم هو رغبتهم في التعرف على هذا المجهول وما يدور فيه. وعلى افتراض أن بعضهم نجح في دخول الحريم وتجول في أقسامه، فإن هذا لا يتجاوز أماكن محدودة جدًّا؛ لذا كان اللجوء إلى الخيال هو طريق من كَتَب منهم. ولكي نستطيع أن نفهم حياة الحريم في القصور العثمانية فلا بد من دراستها داخل إطارها الحضاري، وخلال السنوات الماضية كشفت العديد من المصادر التي كتبها من عاشوا في الحريم السلطاني، كما كشفت وثائق لا حصر لها تبين طبيعة الحياة داخل الحريم السلطاني، رصدت الدكتورة ماجدة مخلوف الأستاذة بجامعة عين شمس كل ما نشر حول حياة الحريم في القصور العثمانية، وقدمت من خلاله دراسة شاملة لها تُعَدُّ غير مسبوقة في بابها.
الحريم: يشتق لفظ الحريم من كلمة الحرم. وحرم الرجل ما يقاتل عنه ويحميه. والحرمة ما لا يحل انتهاكه من ذمة أو حق، وأيضًا بمعنى المرأة، وأهل الرجل. وعلى هذا يكون معنى الحريم لغة هو ما حَرُمَ فلا يُنتهك، وحريم الدار هو ما أضيف إليها من حقوقها ومرافقها.
وبهذا المعنى أطلق لفظ الحريم في معناه العام على الجزء المخصص من البيت الذي يعيش فيه الرجل مع أهل بيته من النساء والقائمات على خدمتهم، ولا يحق للأجانب من الرجال انتهاك حرمته. وهي تسمية ذات دلالة حضارية عما يكتنف هذا المكان من مظاهر الاحترام.
انتقلت كلمة الحريم بهذا المدلول الحضاري إلى العثمانيين، وأصبحت تعني في المصطلح التاريخي العثماني، واحدًا من ثلاثة أقسام يتكون منها القصر العثماني، هي القسم الخارجي والقسم الداخلي والحرم أي الحريم، ويعني الحريم في هذا المصطلح، الجزء الخاص من القصر الذي يعيش فيه السلطان مع أهل بيته من النساء، ويقوم على الخدمة الداخلية فيه عدد من النساء. ويحيط بقسم الحريم أسوار عالية تحول دون أن يطلع أي إنسان من خارج القصر على ما يدور فيه، وأعدت بداخله حدائق واسعة مزينة بكل أنواع الزهور ونافورات المياه لنزهة الحريم، ويتكون قسم الحريم من عدة أجنحة كل جناح منها يسمى دائرة، ويغلق على الأجنحة كلها باب رئيسي يتولى حراسته أغوات (وهم عبيد من الخصيان).
تعتمد التشكيلات العثمانية على الترتيب الهرمي، وقد روعي هذا الترتيب أيضًا في تنظيم درجات ووظائف الحريم في القصر العثماني، وتنقسم الجواري إلى قسمين هما: نساء السلطان والقائمات على الخدمة والإدارة، وتأتي والدة السلطان على قمَّة نساء الحريم، ثم زوجات السلطان، ثم المستولدات، ثم المحظيات، أما المسئولات عن الخدمة فينخرطن في سلك آخر، تأتي على قمته كبيرة خزينة السلطان، ثم الرئيسات، ثم النائبات، ثم المستجدات من الجواري، وهؤلاء يمثلن قاعدة هذا الشكل الهرمي، ولكل درجة من هذه الدرجات رئيسات ومساعدات ولهن درجات تتدرج من الأعلى إلى الأدنى.
وأهم ما قامت به الدكتورة ماجدة في دراستها هو توصيفها لطبيعة العلاقة بين السلطان والحريم في القصر، حيث كانت علاقة السلطان بالحريم تتم وفق تقاليد، فرغم أن كل نساء القصر بالنسبة للسلطان هن بمثابة جواري – باستثناء بناته – فإن أغلبهن موظفات في الحريم لأعمال الإدارة والخدمة. فلم يَكُنَّ جميعًا يعاشرن السلطان كما يتصور المؤرخون الغربيون، إنما من تُؤَهَّل منهن فقط للتعامل معه من الزوجات والمستولدات أو المحظيات، وتلقى قبولاً عنده. ورغم هذا فليس له أن يعاشر أيًّا من الجواري إلا برغبتها وموافقتها فلا يجبرها على ذلك، ويحترم رغبتها إذا امتنعت ويساعدها في اختيار زوج آخر لها، وتتضمن مذكرات الأميرة شادية بنت السلطان عبد الحميد الثاني، أن واحدة من الجواري ظلَّت ترفض الاستجابة للسلطان مدة خمس سنوات؛ لرغبتها أن تكون الزوجة الوحيدة لمن تتزوجه، فاحترم السلطان رغبتها هذه، واختار لها زوجًا يليق بها من رجال القصر، وأسس لها قصرًا في أجمل أحياء إستانبول.
ومن الملفت للنظر أن السلطان عندما يضطر إلى زيارة أحد أجنحة الحريم عند مرض إحدى زوجاته أو بناته، فإنه ينتعل حذاءً له نعل معدني، حتى يسمع وقع أقدامه فيخلو الطريق أمامه، وهذا من مظاهر الاحترام التي سادت في قسم الحريم في القصر، وكان السلطان يهتم بثقافة وذكاء الجارية، قبل اهتمامه بجمالها، فإذا لم يشعر فيها بالذكاء أخرجها وقام بتزويجها.
وعندما تنتهي مدة عمل الجارية في القصر السلطاني وعادة ما تكون تسع سنوات، إذا رغبت في الزواج يتكفل السلطان بتزويجها من أحد رجال الدولة، ويقوم بتجهيزها، ويقدم لها مبلغًا من المال يكفل لها حياة كريمة. تمر الجواري عندما يلتحقن للعمل في القصر السلطاني بمراحل كثيرة فصلتها الدكتورة ماجدة في دراستها، تتركز هذه المراحل على الإعداد والتربية والتثقيف اللازم لها؛ لتصبح جديدة بالحياة داخل القصر، فكانت الجارية تتعلم القراءة والكتابة، والموسيقى والحياكة والتطريز، ومبادئ الإسلام وتحفظ القرآن الكريم، وإذا كانت ذات استعداد عقلي تتلقى دروسًا في اللغة الفارسية أو العربية ثم التاريخ والجغرافيا، ومنهن من درسن فن الخط وكانت جدران القصر تتحلى بلوحات كتبنها تُعَدُّ اليوم من روائع الخط العربي.
لعبت سيدات القصر العثماني دورًا هامًّا في الحياة الاجتماعية في الدولة العثمانية، فقد ساهمن بأموالهن في إنشاء كثير من المؤسسات الخيرية، ومنهن:
- بزم عالم والدة سلطان:
زوجة السلطان محمود الثاني، وأم السلطان عبد الحميد الأول، عرف عنها رقة الشعور وهو ما يتضح من رعايتها الدائمة للفقراء، والمنشآت الخيرية الكثيرة التي أنشأتها في إستانبول وخارجها، ومن هذه المنشآت مستشفى للفقراء تقدم العلاج المجاني للمرضى، وكانت تمثل نموذجًا حضاريًّا متطورًا بالنسبة لزمانها، ولها وقفية تناولت فيها كل التفاصيل المتعلقة بهذه المستشفى، أوصت فيها بالإنفاق بسخاء ودون أدنى تقصير على علاج المرضى مهما بلغت التكاليف، والحرص على راحتهم إلى أقصى درجة، ولها جامع ومدرسة وسبيل ماء في إستانبول، كما شرعت في بناء، لكنها توفيت قبل تمامه، فأتمه ابنها السلطان عبد الحميد الثاني.
- برتونيال والدة السلطان:
كانت المستولدة الثانية للسلطان محمود الثاني، وهي أم السلطان عبد العزيز، ومن خيراتها الجامع الذي يحمل اسمها والذي ابتنته في حي آق سراي في إستانبول، وابتنت بجانبه سبيل ماء وموقنخانة (ساعة) ومكتبة ومدرسة، وقد أوقفت على المكتبة الملحقة بالجامع 1055 كتابا بين مخطوط ومطبوع، كما قامت بعمل إصلاحات وتوسعات في مستشفى المسلمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأمرت بتوظيف أطباء وقابلة وصيدلاني وجراح، وتوفير كل ما يلزم المستشفى من خدمات.
- حفصة سلطان:
أصل اسمها بنت عبد المؤمن وهي ابنة منكولي كراني خان القرم، تزوجها السلطان سليم الأول وهي والدة السلطان سليمان القانوني وهي سيدة ذات خبرات، قامت طوال مدة إمارة ابنها سليمان القانوني في ولاية مغنيسيا، حيث ابتنت هناك كلية كبيرة ضمت جامعًا، ومدرسة وحماما ومدرسة صبيان، وأوقفت كل ممتلكاتها.