محمد خليفة " العطشجي"
الذي حمل وباء الكوليرا " الهيضة" لمصر..
لم تكن مصر قد أفاقت بعد من صدمة الإحتلال البريطاني وهزيمة العرابيين ، ولم يهنأ بال المصريين حتي داهم البلاد خطر عظيم ، تمثل في وباء لا يقل شراسة عن ربقة الإحتلال ..
في يوم الثاني والعشرين من يونيه 1883م ظهرت الكوليرا "الهيضة" في مدينة دمياط ، ومنها انتشرت لسائر بلاد القطر المصري ، تضاربت الآراء في أول الأمر عن حقيقة منشأها ، أوحت قوات الاحتلال للناس بأن السبب يرجع إلي أسباب محلية ، بينما أكد البعض علي صحة أن الوباء قادم لا محالة من بلاد الهند.
ولكن التحقيقات الرسمية أثبتت بأن أحد وقادي السفن ( كانت السفن تعمل بالفحم كوقود لها ) التي وصلت إلي ميناء بورسعيد قادمة من بلاد الهند قبل ظهور الوباء ويدعي محمد خليفة العطشجي نزل إلي البر وجاء إلي دمياط وكان يحمل جراثيم الداء ، وماكاد محمد خليفة يصل دمياط حتي عم فيها البلاء واستشري في كل أرجاء المدينة..
بذلت الحكومة المصرية قصاري جهدها وأولت الأمر الكثير من الإهتمام وعنيت به أشد العناية واتخذت كافة الإحتياطات اللأزمة لمواجهة الوباء ودرء خطره ومحاصرته في مناطق محدودة .
علي الفور انشئت اللجان في القاهرة والأسكندرية وغيرهما من مدن القطر المصري في دمياط والمنصورة علي وجه الخصوص لإسعاف المصابين وإرشاهم إلي طرق الوقاية ، وتقرير الوسائل الفعالة لمكافحته وإستئصاله شأفته واتقاء مضاره .
وصلت البعثات الطبية إلي مصر من الخارج للبحث عن منشأ الوباء سعياً للقضاء عليه وإبادته وإبعاد خطره عن البلاد.
أولي البعثات كانت من ألمانيا يترأسها الدكتور كوخ المعروف ، ثم جاءت بعثة فرنسية برئاسة العالم الشهير لويس باستير ، وأرسلت روسيا بعثة أخري تضم أشهر الأطباء فيها ..
كل هذه البعثات أجمعت باليقين علي أن بلاد الهند هي مصدر هذا الوباء .
وعلي الرغم مما بذلته الحكومة المصرية من جهود واتخذته من وسائل الفعالة بالمشاركة مع هذه البعثات إلا أن الوباء قد انتشر انتشاراً مروعاً في أنحاء البلاد وراح يحصد الأرواح حصداً ويفتك بها فتكاً ذريعاً .
وكان حي بولاق بالقاهرة من أشد الأحياء تضرراً بسبب كثافته السكانية فأودي الوباء بحياة الألاف منهم وبلغ بالناس الذعر أي مبلغ فغادر الناس والنزلاء البلاد ونزحوا إلي سوريا وأوروبا وظلوا هناك حتي زال الخطر وتقلص الوباء .
ومما يذكر أن خديوي مصر محمد توفيق لم يكن يألوا جهداً في سبيل المرور بنفسه في أحياء الأسكندرية وشوارعها التي نال منها الوباء أي منال ففي يوم السابع من يوليه عام 1883م راح يتفقد أحوال المستشفيات والمصحات وواسي المصابين وأصدر أوامره بضرورة الاهتمام والمواظبة علي نظافة المدينة وتطهيرها بالمواد الكيماوية .
ومما ذكره الجنرال " جرانفيل " السردار البريطاني السابق ـ وقتها ـ في مذكراته أن الخديوي توفيق قد نال إعجاب رجال الجيش لشجاعته وشدة عطفه علي المصابين .
وقام حكام الأقاليم يحذون حذو الخديوي وراحوا يتفقدون الأماكن الموبوءة ويراقبون كافة الخدمات والاحتياطات اللأزمة ويرشدون الناس إلي طرق الوقاية ، وبدأت الصحف السيارة نشر تلك الأمور في صدر صفحاتها بناء علي أوامر الأطباء ، كما قام الكتاب في هذه الصحف بالكتابة في هذا الموضوع نظراً لأهميته وسعياً وراء تنوير الناس ، وتم إنشاء لجنة كبري في مصر كانت مهمتها الأساسية جمع الأموال لإنفاقها علي المصابين وأسرهم وعلي من فقدوا أولياء أمورهم بسبب هذا الوباء .
وزيادة في الاحتياط راح الناس يمتنعون عن تناول الفاكهة مثل العنب والشمام والبطيخ إلا أن البعض منهم كان يتناولها خفية بعد هبوط أسعارها هبوطاً كبيراً .
ومما يذكر أيضاً أن أحد الموظفين الفرنسيين ـ وكان من المعية السلطانية ـ ويدعي " مسيو أودان" كان قد ألف في تلك الفترة علي تناول الثوم وأكثر من ذلك في فترة الوباء معتقداً بأنه مطهر وقاتل للميكروبات وقد صح أمره بعدها .
وعلي سبيل الفكاهة أن أمر الوباء لما اشتد وباله وزادت وطأته أن كان أحد المكارية يقوم علي نقل راكب في شارع السبع بنات بالأسكندرية ، وكان المكاري صائماً في شهر رمضان ويركض من خلف حماره وبلغ به التعب كل مبلغ حتي شعر بدوار شديد فراح يتكئ بذراعه علي شجرة بالطريق ليستريح تحت ظلها ، وبالصدفة كان بعض رجال مصلحة الصحة يمرون فأشار عليهم الراكب بنقل المكاري إلي الحجر الصحي لمعالجته ، فقاموا علي الفور بنقله علي نقالة الإسعاف علي كره منه مما جعل الرجل يقاومهم أشد المقاومة ولكنهم لكثرتهم غلبوه ولم يستطع الإفلات من بين أيديهم وساروا به وهو يستغيث بالمارين من حوله ، فلم يغثه أحد.
وفي أثناء سيرهم مروا من تحت شجرة فتعلق بها المكاري بعد مغافلتهم فأمسكوا به من رجليه وهم يحاولون جهدهم جذبه وظل لي مقاومته حتي جاء طبيب الصحة وقام بتوبيخهم علي مدي ماوقعوا فيه من خطأ مبيناً لهم مدي ماوقعوا فيه من خطأ في أن الرجل لو كان مريضاً لما استطاع أن يتعلق بغصن الشجرة أو يقاوم ..
وبنهاية أغسطس عام 1883 م تم استئصال هذا المرض اللعين وأثبتت التقارير أن عدد ما خلفه من خسائر بشرية في طول البلاد وعرضها بلغ أربعين ألفاً ولولا الجهود التي بُذلت وعناية الله لأشتد خطره وعظم بلاؤه ولزاد عدد ضحاياه أضعافاً مضاعفة .