سيد عسران
فتي بورسعيد الذهبي
أخيراً استراح الفارس .. ..
نعم استراح الفارس الذي عاش طيلة عمره مناضلاً ، متشبثاً بحب الوطن ، معانقاً الجميع ممن يلقونه بحب جارف وقلب يسع الدنيا بأسرها ، هكذا كان وسيظل عم سيد ملء الضمير الوطني ، وفي ذاكرة هذه الأمة مهما علا علي السطح هؤلاء الذين لا يكفون عن الثرثرة والمزايدة والإدعاءات الرخيصة من أجل نيل غرض مؤقت عابر ..
كان سيد عسران يمثل ضمير أمته وهي تواجه عدواناً غاشماً من دول ثلاث جاءت لتجهض حلمها ، ولكن أبناء الوطن والذين ينذرون أرواحهم في سبيله عانقوا عظمة الشهادة ، ليضربوا أروع أمثلة الفداء ولم يبحثوا عن شرف مروم أو مجد تليد ..
ففي أزمنة المحنة تظهر معادن الرجل ، وهنا بزغت عبقرية الشاب سيد محمد عسران عثمان المولود في 15/4/1938 ليقدم روحه وشبابه تلبية لنداء الوطن الذي يعاني من نير العدوان الثلاثي علي ثراه الغالي.. وضرب الفتي سيد عسران المثل الأعلي في الإيمان بقضية الوطن الذي عشقه حتي الثمالة ..
كانت قوات الإحتلال البريطاني قد ملأت المدينة الباسلة جوراً وظلماً بعد سلسلة من الاخفاقات والفشل الذريع في مواجهة المقاومة الشعبية التي استبسل أفرادها علي كافة الأصعدة في التصدي وتحدي قوي العدوان، وكانت حجر عثرة أمامه في تركيع الوطن .. فبعد أن أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر القرار رقم 285 يوم 26من يوليو عام 1956 بشأن تأميم شركة قناة السويس العالمية للملاحة البحرية وجعلها تعود إلي السيادة المصرية ، جن جنون بريطانيا العظمي وقامت علي الفور بتوجيه انذار شديد اللهجة إلي القيادة المصرية في ذلك الوقت ، وتحالفت معها فرنسا واسرائيل للنيل من كرامة مصر ،فحشدت قواها وهاجمت المدينة الباسلة وفي ظنها أن المدينة ستستسلم ،وأن احتلالها هو السبيل الوحيد لإجهاض القرار التاريخي وإعادة الأوضاع إلي سابق عهدها..
إلا أن المقاومة الشعبية أقضت مضاجع العدو الذي تعامل بشراسة مع كل القوي الوطنية التي تناضل ضد مستعمر غاصب يملك كل المعدات والأسلحة..
وحدث أن وقعت أكبر عملية إهانة لبريطانيا ، فقد تشكلت مجموعة من شباب المدينة الشجعان ( حسين عثمان ـ محمد حمدالله ـ علي زنجيرـ أحمد هلال) آلت علي نفسها خطف الملازم مورهاوس الذي يمت بصلة القربي لملكة بريطانيا..
لم يغمض جفن لقادةالقوات البريطانية ، فلم تترك في المدينة سبيلاً إلا وقطعته ،ولا بيتاً إلا فتشته ،ولا مواطناً إلا وألقت القبض عليه ..
وشمر" الميجور جيمس ماكدونالد ويليامز " عن ساعديه ليثبت لقيادته أنه المنقذ الذي سيرد العار الذي لحق بالشرف المهين..
صحب مساعده ريفز في رحلة البحث عن الجناة في كل أنحاء المدينة.. ولكن ليس كل ماتتمناه قوي الطغيان تدركه ، فكان الفتي سيد عسران في الثامنة عشرة من عمره وكأنما قد ساقه القدر ليقف لـ " الميجور وليامز " بالمرصاد ليلقي رئيس المخابرات البريطانية حتفه علي يديه..
كان صباحاً ليس ككل الصباحات التي مرت علي المدينة التي تزدهي بأبنائها ، وتمسد شعورهم إذا حان المساء مثل أم رؤوم ، صباح الرابع عشر من ديسمبر1956 ووقف عند ناصية شارع رمسيس وبدا للناظرين وكأنه يقضم من رغيف خبز بيمينه ،
وماهي إلا لحظات حتي أقبل الصيد الثمين يخطر في خيلاء ويبدو من عليائه كفارس مغوار يمتطي صهوة جواده جالساًُ في مقعده الأمامي بسيارته الجيب مغروراً ، كان خارجاً لتوه من مبني شعبة البحث الجنائي ..
أشار الفتي عسران للميجور المغرور بورقة كانت معه ، ظنها " ويليامز " شكوي يتقدم بها الفتي إليه فتوقف بسيارته ، في تلك اللحظة التي لا تتكرر إلا نادراً نزع سيد عسران فتيل الأمان من القنبلة التي دسها في رغيفه ، ثم ألقي بها سريعاً في دواسة السيارة الجيب ..
في الحال سمع دوي انفجار عظيم في كل أرجاء المدينة ، وسري الخبر بين ربوعها مسري النار في الهشيم فيما كان الميجور تنزف منه الدماء بغزارة ، وقد بتروا ساقه ، وحملوه وهو يترنح جريحاً إلي المستشفي العسكري الميداني في جزيرة قبرص ، وعلي الفور جرت محاولات لإسعافه ، ولم يستطع أحد إنقاذه فلقي حتفه علي الفور ..
وراحت قوات العدو تهرول في شوارع المدينة علي غير هدي ،ولكن كل محاولاتها باءت بالفشل الذريع ولم يعثروا علي البطل..
ومن يومها وعم سيد تحتضنه المدينة بين ذراعيها ولا تغفو لها عين إلا بعد أن تطمئن عليه ..
وبعد رحلة عمر رائعة قدم للوطن من يحملون اسمه المشرف ،وتاريخه الرائع (بنتان وولد له منهم سبعة أحفاد ) مازالوا جميعاً يفخرون به ويزهون بتلك السطور الخالدة التي سطرها بدمه ..
وأخيراً في يوم الخامس من أبريل 2004 م ، ترجل الفارس عن جواده وحط رحاله في مدينته الباسلة ، وعاد إلي مثواه الأخير ليضمه ثري مدينته التي تباهت به ، وذكرته بكل الفخار فتي ذهبياً وابناً باراً من أعز أبنائها ، بعد رحلة كفاح استغرقت جل عمره، عاشها إنساناً بسيطاً زاهداً في محراب عشق الوطن..
وضرب سيد عسران للأجيال جميعاً أروع صور البطولة والنبل والفداء مسجلاً اسمه ضمن العمالقة الذين كانت سيرتهم علي الدوم نبراساً علي الطريق تهديهم إلي السبيل السوي وتمنح الجميع دروساً مجانية في قدسية الوطن ،و بحروف من نور سطر التاريخ اسمه في أروع ملحمة وأعظم أمثلة البذل والعطاء في سبيل الوطن..
كان سيد عسران بطلاً نموذجياً يحتذي به في تاريخ البطولات ضد قوي البغـي والعدوان التي لا تألوا جهداً في إجهاض أي روح للمقاومة.
كان علي أن أعانقه طويلاً ، فقد افتقدته منــــذ فترة،
لكن صوته من الهاتف كان مؤنسي ، يأتيني في صدق وحميمية فيثلج صدري ..
في اللقاء الأخير كان عم سيد راقداً في فراشه بمستشفي ، تأهب تماماً لملاقاة الموت دون أن يخشاه يستعد للقاء وجه ربه في ثقة المؤمن وخشوع المتبتل ، وبروح عالـية من التفاؤل والبشر ..
حــين عرفت بوجوده في العاصمة للعلاج من المرض العضال زرته ،قضيت معه وقتاً طيباً تبادلنا معاً العديد من الكلمات ، كانت روحه وثابة غير يائسة من رحمة الله ، كان بشــوشاً مرحاً كعادته منذ أن عرفته ، لم ينس أن يحملني السلام أمانة لأخي الشاعر عبده العباسي الذي يعمل بدولة الكويت وقام بـ " تكبير" صورة سيد عسران ورفاقة حمدالله ومحمد مهران وباقي الرفاق مع الزعيم عبد الناصر والمشير عامر، قال لي وهو يتسلمها مني بعد عناق شديد :
ـ دي أعظم تكريم لمواطن من قيادة بلده ..
قالها لي وأنا أقدمها له ـ في لقاء سابق ـ بالنيابة عن أخي وبالأصالة عن كل أبناء هذا الوطن الذين تربوا علي ثراه فعشقوا كل ذرة فيه ..
تجاذبنا أطراف الحديث ـ والحديث معه له شجون ـ رحت أربت علي كتفه:
ـ سلامتك ياعم سيد..
بوميض من عينيه نظر لي وابتسم : الله يسلمك.. مر بعض الوقت ، غفت عينه قليلاً ، في ثانية واحدة عاد ليقظته ،تهيأت لأن أغادره لكي يرتاح ،إلا أن يداً قوية أعادتني للجلوس :
ـ علي فين ؟
ـ اسيبك تستريح شوية..
ـ أنا مستريح كده ..
مسد شعر رأسي مداعباً :
ـ شاب شعر رأسك ..
ـ وليس شيبي من سنين تتابعت
وإنما شيبتني الوقائع..
ضحك مقهقهاً :
ـ لكنك كنت صغيراً في زمن الحرب..
ـ كنت في سن الثالثة من عمري..
وتحدرت دمعة من مقلتي ، وصارت الدمعة غيمة ، والغيمة مطراً ، والمطر ينهمر فيزيل عن سنوات العمر البعيدة ما علق بها من غبار..
ورأيتني صبياً صغيراً أسعي من ورائه في الطرقات كي أعرف حكايته ولأجري معه حواراً لمجلة المدرسة : ـ والنبي ياعم سيد..
أشار لي كمؤدب لتلميذه :
ـ اقعد..
قعدت.
وطلب لي علي الفور :
ـ واحد شاي فريسكا بسرعة ..
وأخذ يحكي علي مهل وأنا أكتب ..
قال : بطئ ، لكن خطك جميل..
وفي النهاية قال: آدي الحكاية يا أخويا من طقطق لسلاموا عليكو..
أثلج صدري حلو حديثه ، قطعت الطريق عدواً إلي البيت ، ونمت حتي الصباح محتضناً كراستي ، وطرت للمدرسة علي جناح الشوق ـ علي غير العادة مني ـ فوجدت معلمي ـ رحمه الله ـ سعيداً بهذا الظفر..
وكأنما أيقظني بدعاباته :
ـ نحن هنا ، رحت فين أمال..
ـ فرحان بك ياعم سيد..
ـربنا يشفيك..
كنت علي موعد معه لتسجيل حوار شامل ،لكن يد المنون كانت الأسبق إليه..
" وما تشاءون إلا أن يشاء الله".
وهكذا مات عم سيد ، ساعتها فقط دمعة تحدرت من مقلتي وتذكرت سيف الله المسلول البطل خالد بن الوليد وهو علي فراش الموت ..
" فلا نامت أعين الجبناء "..
كانت ثمة رفرفة لنسمة ربيعية أقبلت تهفهف مرحبة بروح البطل الذي لم تهزمه قوي العدوان ، ولم يقبض عليه ويليامز وظل منطلقاً في رحاب المدينة التي أحبته ..
سيظل سيد عسران كطائر الفينيق وهو طائر خرافي زعم قدماء المصريين أنه يعمر خمسة قرون أو ستة ، وبعد أن يحترق ينبعث من رماده عنقاء شاباً جميلاً ، وهو رمز لشروق الشمس وغروبها وظهر ..
سيظل طائر الفينيق كلما مر الوقت يجئ ليطًوف في أرجاء المدينة ، ويبقي أسطورة لفتي ذهبي ترددها الأجيال في بورسعيد ومصر بأسرها ..