يا عقلاء السودان... حذارِ من المآلات المنطقية لقرار «الجنائية» يا عقلاء السودان... حذارِ من المآلات المنطقية لقرار «الجنائية»
ليس أقسى على المرء من أن يكون موطنه محاصراً بشتى أصناف المشكلات والصعوبات، وتلك هي – على وجه التحديد – حال السودان الذي تدلهم حوله الخطوب، وتهدد بقاءه، وتنذر استقرار أهله في قراهم وبواديهم بشرًٍّ مستطير، وعلى رغم ذلك لا يكاد المرء يجد صوتاً عـــاقلاً يقدم النصح والمشورة لذوي الشأن، حتى يمكن إزالة العقبات الكبرى، وتنتهي أزمـــة البلاد بأقل قدر من الخسائر.
وفي خضم لُجةَّ المصير الغامض والمشهد المضطرب، تعلن المحكمة الجنائية الدولية أنها قررت إضافة تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الرئيس عمر حسن البشير، الذي اتهمته أصلاً في عام 2009 بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، في أول سابقة إجرائية بحق رئيس يجلس على دست الحكم.
ومن المؤسف أن رد الـــفعل الحـــكومي السوداني على قرار قضاة المـــحكـــمة الجـــنائية سلك الـــطريق نفسها التي التـــزمتها الإدارات الحكومية والـــحزبية الحـــاكمة في عـــام 2009: اعتبار الـــسودان غير معني بقرار الـــمحكمة، ورميه بأنه ينم عن غرض سياسي، وأنه يــستهدف تعقيد مسيرة السلام في البلاد.
صحيح أن السودان يشهد منذ أشهر مفاوضات مهمة في شــــأن إقرار السلام في دارفور، التي تشهد حربـــاً أهلية مستمرة منذ العام 2003، بيد أن تلك المـــفاوضات لم تؤدِ إلى نتيجة، والأرجـــح أنـــها ستنفض من دون اتفاق، إذ إن الحكــومة السودانية تزج بمقاتلاتها الجوية لضرب الأهالي وحرق القرى، وتعلن في أجهزة الإعلام أنها تريد السلام، وأنهــا بصدد وضــع استــراتيجـــية جــديـــدة لإحـــلالــه.
ويثير القلق أن الخرطوم رفضت مراراً كل المقترحات التي قدمت إليها لحل مشكلة المحكمة الجنائية، خصوصاً القبول بإنشاء محكمة دولية على غرار محاكم رواندا ولبنان ويوغسلافيا السابقة، مع إمكان مشاركة قضاة سودانيين فيها، فقد أجمع رجال القانون المحليون والدوليون على أن القضاء السوداني يخضع حالياً للسلطة التـــنفيذية وسطوة الحزب الحاكم، ولا يتــمتع بـــأي قدر يذكر من الاستقلال.
ومهما يكن من شأن مواقف الحكومة السودانية من قرارات قضاة المحكمة الدولية، فإن الحقيقة الناصعة الباقية تتمثل في أن رئيس البلاد مهدد بأمر قبض دولي، وأنه من جراء ذلك أضحى مقيد الحركة، ولم يعد يستطيع تحدي أمر القبض الدولي إلا بالسفر في محيط بلاده (مصر، أرتيريا، أثيوبيا)، وأضحى معزولاً ديبلوماسياً، إلى درجة أن المبعوثين الخاصين للسودان من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمتنعون عن لقاء الرئيس، ويلتقون بمن هم أدنى وظيفة، ويجوبون أرجاء البلاد ولا يكفون عن الإدلاء بالتصريحات للصحف وشبكات التلفزة.
ليس ثمة وصف أدق لمحنة البشير من لفظ «SNUB» بالإنكليزية، إذ إن أولئك المبعوثين والوزراء الآتين من دولهم إنما يزدرون بكبير السودانيين على مرأى ومشهد من بني شعبه، وليسمها مسؤولو حكومة الخرطوم ما شاءت لهم التسميات: «وقاحة، إزدراء، إهانة، عجرفة، غرور، عنجهية»، لكن تلك هي حقيقة «الوضع الراهن»، وعلى رغم ذلك لم يجرؤ أي مسؤول سوداني على رفض منح أولئك المبعوثين تأشيرة لدخول الأراضي السودانية.
نحن – السودانيين – لا نرضى إهانة لوطننا، ولا نقبل الحط من قدر رئيس بلادنا، لكن ما قيمة وجدوى تلك المشاعر الصادقة ونحن إزاء خطب جلل يوشك أن يدق أبواب بلادنا ويُحدث فيها تغييراً جذرياً، شئنا أم أبينا؟! إذ إن الواقع يقول إن أمر قبض جنائي دولي يهدد حرية رئيس بلادنا، وتقتضي الحكمة والعقل التعامل بواقعية مع تلك المعطيات، لأن الأمر لم يصدر عن كيان سياسي مناوئ، ولا كتلة حزبية تبغض البشير وأعوانه، ولا هي مؤسسة غربية تمقت الإسلام وتطعن في أهلية حكومة الخرطوم لنشر الإسلام وحمايته. إنه صادر عن محكمة تتعاطى مع قضاياها من واقع الحيثيات والنقاط القانونية، وليس من واقع ما تكتبه الصحف وتلعلع به إذاعات الجهات المناوئة.
إن استمرار تمسك البشير برفض التجاوب مع المحكمة الجنائية الدولية سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى تفكيك السودان، وليس مستبعداً أن تنصرف إرادة القوى الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى تخويل الجهات المعنية بالقبض عــــلى البشير بالقوة... لـــن يكون الرئيس آمنـــاً داخل قصره أو علـــى متـــن طائرته.
وإذا اتبعنا نهج أعوان البشير الذين يرون أي انتقاد له أو للنظام إهانة للإسلام وتآمراً على إمام المؤمنين ومساعديه، فسيتم «تجييش» الشعب، وتكريس الآلة العسكرية للدولة وميليشيات الحزب الحاكم، لصد أي هـــجوم دولي محتمل لتنفـــيذ أمر القبض.
وفي الحد الأدنى، قد يفرض مجلس الأمن الدولي عقوبات اقتـــصادية صارمة على السودان لتَمَنُّع الخـــرطوم عن تسليم رئيسها. والمتضرر هو – في نهاية المطاف – شعب السودان وأرضه وثرواته ومستقبل أجياله.
يدرك كل سوداني عاقل أن أمر القبض الدولي موجه إلى البشير وليس إلى الشعب، وأن أي اتهام توجهه محكمة جنائية محـــلية أو دولية لن يسقط بالتقادم، ولن يشطب لأن المتهم رفض الانصياع له، مهما طال الزمن أو قصر. إن البشير في محنة حقيقية.
لكن شعبه منقسم حيال تلك المحنة، فهناك من يتـــعاطفون معه، صدقاً أو نفاقاً، وهناك من يجـــاهرون بتأييد القبض عليه ومحاكمته، وذلك هو الواقع الذي ينكره مسؤولو حـــكومة الخرطوم. ومثل هذا الانكار والتعامي عن رؤية الحقيقة لن ينجز إلغـــاء أمـــر القبض، ولن يتيح للبشير رفاهية السفر حتى إلى غرب أفريقيا وشمالها، ناهيك عن السفر إلى أوروبا وآسيا وأمـــيركا اللاتينية، ولن تؤدي تلك الأماني الغــــافلة إلى شيء سوى إطالة أمد معاناة ظلــــت تنهش الشعب منذ 20 عاماً. وإذا راهن البشير وأعوانه على تأييد جماهير مؤتمرهم الوطني الحاكم في 2009 و2010، فهل يضمنون بقاء مؤيدين مستعدين للموت فداءً للرئيس بعد تفكك وحدة البلاد وتفاقم نزاعاتها العبثية في الغرب والوسط والشرق؟
اللهم أرحم بلادنا من فظائع بنيها التي يرتكبونها باسم حب الأوطان وحماية الأديان والتمتع بأموال السودان.