اللواء مصطفي رفعت قائد قوات «البوليس» في الإسماعيلية عام ٥٢
«لقد كان عملا قذرا، ما أقدمنا عليه لندخل هذا المكان».. هذه الكلمات قالها القائد الإنجليزي ماتيوس لضباط الشرطة في الإسماعيلية عام ٥٢، عندما شاهد جثث وأشلاء الضباط والعساكر، تغطي أرجاء مبني محافظة الإسماعيلية، توقف القائد عن الكلام وأعطي التحية لهؤلاء البواسل، وترك الأحياء منهم يخرجون بـ«كلمة شرف» منه، عقدها مع الملازم أول مصطفي رفعت قائد قوات الشرطة في ذلك الوقت،
ولم تكن حربا بين بندقية متواضعة ودبابة مدمرة، لكنها حرب بين العزيمة والإرادة والقوة والتحدي والكرامة من ناحية وبين رغبة محتل غاشم في الوصول إلي هدفه، ففي مشهد تاريخي لهم وللمقاومة المصرية، وقف رجال الشرطة يستقبلون الرصاص وقذائف المدافع في ٢٥ يناير، ليكون ذلك عيدهم.. عيد وضعوا بدايته بدمائهم. «المصري اليوم» التقت قائد قوات الشرطة مصطفي رفعت «٨٤ سنة» والذي تحدث بثبات وقوة وكأن ما حدث فقط كان بالأمس.
داخل منزله في الجيزة، كان اللقاء، وتحدث اللواء مصطفي رفعت مساعد أول وزير الداخلية الأسبق عن المقاومة ودوره والفدائيين في تلك المعركة، ثم اعتقاله وعزله من العمل في البوليس، قبل أن يعيده الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلي عمله تكريما له علي العمل البطولي، تذكر الرجل زملاءه في المقاومة وكيف رفض العساكر مغادرة المبني وقالوا «نموت هنا بدلا من أن نستسلم للعدو».
قال اللواء مصطفي: كنت أدرس الشرطة الجنائية أو شرطة الجريمة في إنجلترا عام ٥٢، وكان معي زميلي الفنان صلاح ذو الفقار، وصديقنا صلاح الدسوقي، الذي أصبح فيما بعد محافظا للقاهرة، عرفنا من خلال الصحف الإنجليزية، أن هناك مقاومة شعبية شرسة يقودها شعب القناة ضد الإنجليز دون تردد، قلت لزميلي الدسوقي وذو الفقار لازم نرجع مصر وننضم للمقاومة، وكتبنا طلبا لمدير كلية الشرطة بالانضمام، ووافق علي أن ندرب قوات البوليس المصرية بعد حصولنا علي فرقة «قتال»، وتوجهنا إلي الإسماعيلية،
وكنا نوجه ضربات كثيرة للإنجليز وسقط الكثير منهم ما بين قتلي وجرحي لدرجة أن قائد القوات البريطانية أمر جنوده ألا يسيروا بمفردهم، وقال لجنوده: لابد أن تسيروا «٤» مع بعض علي الأقل، فالجندي الذي كان يتحرك بمفرده يرجع لمعسكره جثة هامدة، وأتذكر أنني نفذت عملية تفجير لأحد مواقع القوات الإنجليزية، وكان معي الفنان صلاح ذو الفقار وحدثت مطاردة مثيرة بيننا وبين قوات الاحتلال،
وانتهت باختفائنا داخل منزل أحد المواطنين، فأثناء سيرنا فوق سطح المنزل وجدنا «تعريشة» من الخشب، أخذتنا وسقطت بجوار أهل المنزل الذين كانوا يتناولون الطعام، وقال لهم صلاح ذو الفقار: السلام عليكم وروي لهم التفاصيل واحتضنونا حتي الصباح وعاودنا المقاومة.
يوم ٢٥ يناير ٥٢، كان يوم جمعة وجدنا «فراش» بالمحافظة وهو أحد الفدائيين يقول لنا: الحقوا.. الإنجليز حاصروا المحافظة.
وفي السادسة صباحا، توجهنا إلي مقر المحافظة وكان بداخلها ٧٥٠ عسكريا وضابطا، وتوجهت للتفاوض مع القائد الإنجليزي «إكسهام» الذي كان يتحدث بغطرسة وطلب منا أن نغادر المكان، وننزل العلم المصري، لكنني رفضت، وقلت له علي جثتي وزملائي ولن نغادره أحياء، ودارت الحرب، كنا نحمل بندقيات الواحدة منها بها ٥ طلقات فقط، بينما يمتلك جنود الاحتلال أسلحة وذخيرة حديثة ودبابات رهيبة، ويومها أحضروا لنا قطارا وقالوا اركبوا وغادروا القاهرة،
وبدأ الجنود والضباط يتساقطون في حرب استمرت ٩ ساعات، ورفض القائد أن نعالج الجرحي أو ننقلهم بالإسعاف لتلقي العلاج في المستشفي، واشتدت ضربات الإنجليز وحرقوا المحافظة بالكامل ويومها فقدنا ما بين ٥٠ و٦٠ قتيلا ومئات الجرحي، ورفضنا أن نستسلم وساعدنا الفدائيون يومها بإحضار الذخيرة.
أصعب موقف كان بعد سقوط الضحايا ما بين قتلي ومصابين، كانت الدماء تنتشر في كل مكان، هنا تجد ذراعا وهناك تجد قدما أو أحشاء، لكن الموقف الأصعب عندما انتهت المفاوضات بيني وبين القائد الإنجليزي علي أن أسلم له المحافظة، في تلك اللحظة سقطت دموع العساكر، وقالوا: لن نخرج من هنا، نموت أفضل لازم نكمل المقاومة، مش مهم مفيش ذخيرة نقاتلهم بالبنادق والطوب والشوم، حتي نلحق بزملائنا الشهداء، لقد كان الموقف غريبا وعصيبا،
وأقنعت العساكر بالأمر، وأننا لن ننجح أن نجرح جنديا واحدا منهم، لكن في مقدور واحد منهم أن يقتلنا جميعا، فالذخيرة والأسلحة انتهت وأصبحنا «عُزل»، أتذكر أن «ياور» القائد «ماتيوس» دخل إلي مبني المحافظة، وعندما شاهد الجثث والمصابين وضع يديه فوق عينيه من المنظر البشع، وقال «هذا عمل قذر، ما أقدمنا عليه لنحتل هذا المكان» وجدت الرجل وقائده ماتيوس يقف ويؤدي التحية العسكرية لنا وللضحايا،
وقال ماتيوس: لقد كنتم رجالا بواسل قاومتمونا بشراسة وقوة رغم الفارق في الإمكانات والأسلحة، عدت إليه للتفاوض والخروج من المكان وكان ذلك بالشروط التي وضعتها رغم الهزيمة، لكن الرجل وافق علي كل الشروط تقديرا للدور البطولي الذي بذلناه، وكانت الشروط: أن نخرج من مبني المحافظة في طابور طويل وألا نرفع أيدينا مثل الأسري، وأن يتعامل معنا بـ«كلمة شرف» وألا ينزع العلم المصري من أعلي مبني المحافظة، ووافق الرجل وتم اقتيادنا إلي المعتقل في صحراء الإسماعيلية.
وفي المعتقل كانت المعاملة جيدة علي خلفية «كلمة الشرف» لكن الطعام كان سيئا، «قشر» البرتقال وقطعا صغيرة من البصل والخبز، والتقيت قائد المعسكر وسألته هل هذه كلمة الشرف، الطعام سيء؟ فرد علي بحسرة: هذا الطعام نحضره من قبرص، لأن المصريين رفضوا العمل معنا وغادر الموقع قرابة ٨٠ ألف مصري، وإذا كنتم تريدون طعاما اكتبوا طلبا للحكومة المصرية ولن نعترض، تذكرت أن ذلك يعود بالنفع علي القوات الأجنبية فقلت له: إن قشر البرتقال رائع ومغذ، استمر الاعتقال قرابة ٥ أشهر،
وعدت بعد ذلك إلي القاهرة وتم فصلي وزملائي من الخدمة لأننا قاومنا الإنجليز، وعشت في الإسكندرية وبعد أيام من الثورة حضر إلي صديقي إبراهيم البغدادي الذي أصبح مديرا للمخابرات فيما بعد، وقال: سمعت بالثورة، قلت لأ.. قال: طيب تعرف جمال عبدالناصر وجمال سالم وصلاح سالم ومحمد نجيب والسادات، قلت: لأ.. وأخذني من يدي إلي العباسية حيث مقر قيادة المخابرات المصرية، والتقيت عبدالناصر الذي أمر بعودتي فورا إلي عملي،
وقال: كان لابد أن تكافأ عن هذا العمل الرائع ولا يكون جزاؤك العقاب والفصل من الوظيفة، وكرمني الرئيس عبدالناصر بعد ذلك وحصلت علي وسام الجمهورية.. منذ عام بالضبط، حضر ضابطان إنجليزيان من القوة التي شاركت في الحرب ضدنا وأعطاهما الله عمرا طويلا مثلي، وزار الضابطان مقابر الشهداء في الإسماعيلية وقدما اعتذارا لوزارة الداخلية في عيد الشرطة.